خطبة الجمعة التي ألقيتها يوم 1435/12/9-2014/12/10م عن يوم عرفة ، بفضل الله

الخطبة الأولى

إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له  ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً ، أما بعد :

قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ } (102) سورة آل عمران .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ } (119) سورة التوبة .

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا } (70) سورة الأحزاب .

قال تعالى : { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} (197) سورة البقرة

الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر لا إله إلا الله  ، والله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد .

يعيش المسلمون في هذه الأيام نفحة من نفحات الأنس من رياض القدس ، على كل قلب أجاب إلى ما دعى ، يا همم العارفين بغير الله لا تقنعي ، يا عزائم الناسكين لجمع أنساك السالكين اجمعي ، لحب مولاك أفردي وبين خوفه ورجائه اقرني ، وبذكره تمتعي ، يا أسرار المحبين بكعبةِ الحب طوفي واركعي ، وبين صفاء الصفا ومروة المروة اسعي وأسرعي ، وفي عرفات الغرفات قفي وتضرعي ، ثم إلى مزدلفةِ الزلفى فادفعي ، ثم إلى منى نيل المنى فارجعي ، فإذا قُربَ القرابين ، فقربي الأرواح ولا تمنعي ، لقد وضح الطريق ولكن قل السالكُ على التحقيق وكثرَ المدعي .

كما تعلمون رعاكم الله اليومُ يقف إخوانكم المسلمون حُجاج بيت الله الحرام بعرفة .. في سكينةٍ وطمأنينة .. في ظل ما وفرته حكومة خادمَ الحرمين الشريفين حفظه الله من خدمات في مكةَ المكرمة والمشاعر المقدسة ، فهنيئاً للحجاج ، يجأرون إلى الله بقلوب محترقة ، ودموع مستبقه ، فكم فيهم من خائف أزعجه الخوف وأقلقه ، ومحب ألهبه الشوقُ وأحرقه ، وراجٍ أحسن الظن بوعد الله وصدّقه ، وتائبٍ نصح لله في التوبة وصدقه ، وهارب لجأ إلى باب اللهِ وطرقه ، فكم هنالك من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه ، ومن أسير للأوزار فكه وأطلقه ، وحينئذ يطلع عليهم أرحم الرحماء ، ويباهي بجمعهم أهل السماء ،

عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم : ” ما من يوم أكثر من أن ُيعتق اللهَ فيه من النارِ من يوم عرفة ، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة فيقول : ما أراد هؤلاء ؟ ” صحيح مسلم .

وعن جابر رضي الله عنه قال : قال رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم : ” ما مِنْ أيامٍ عِنْدَ الله أَفْضَل مِنْ عَشْرِ ذِي الحِجَة ” , قَال : فَقَالَ رَجُلٌ : يا رَسُولُ الله هُنُّ أَفْضَلُ أمْ عَدَدَهُنَّ جِهَادًا في سَبِيلِ الله ؟ قال : ” هُنَّ أَفْضَل مِنْ عَدَدُهْنَّ جِهادًا في سَبِيلِ الله ، ومَاَ مِنْ يَوْم أفْضَلُ عِنْد الله مِنْ يَوم عَرَفةَ : يَنْزِلُ الله – تَبَارْكَ وتَعَالى – إلى السْمَاءِ الدُّنيا فَيُباهي بِأهْلِ الأرض أهَلْ السْمَاءِ ، فيقول : انْظُروا إلى عِبَادِي جَاءوا شُعْثًا غُبْرًا حَاجِين جَاءْوا مِنْ كُلِ فجٍّ عَمِيقْ يَرجُونَ رَحْمَتي ولم يَروا عَذَابي ، فَلَم يُرَ يومٌ أكثر عتيقًا مِنْ النَّار مِنْ يَوم عَرَفْة ” ، رواه أبو يعلى و البزار وابن خزيمة  وابن حبان في صحيحه .

وفي الصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً ، فقال : أي آية ؟ قال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة  ، فقال عمر : إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه ، والمكان الذي نزلت فيه ، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائمٌ بعرفة يوم جمعة  ، وخرّج الترمذي عن ابن عباس رضى الله عنهما نحوه وقال فيه : نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة . أخرج البخاري في صحيحه .

قال الشعبي : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة حين وقف موقف إبراهيم عليه السلام ، واضمحل الشرك وهدمت منار الجاهلية ، ولم يطف بالبيت عريان .

عباد الله … من فاته في هذا العام القيامُ بعرفة ، فليقم لله بحقه الذي عرفه .

ومن عجز عن المبيت بمزدلفة  فلُيبت عزمه على طاعة الله وقد قربه وأزلفه .

ومن لم يمكنه القيام بأرجاء الخيف فليقم لله بحق الرجاء والخوف .

من لم يقدر على نحر هديه بمنى فليذبح هنا ، وقد بلغ المنا .

من لم يصل إلي بيت الله الحرام لأنه منه بعيد ، فليقصد ربّ البيت فإنه أقرب إلى من دعاه ورجاه من حبل الوريد .

لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك .

عباد الله .. إن الله عز وجل أكمل في يوم عرفة الدين ، وأتم فيه النعمة على المؤمنين .

ويشرع في هذا اليوم الصوم لغير الحاج ، لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن صوم يوم عرفة : ” أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده ” .

وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وعن أبيها تحرص على صيامه وتقول : ” ما من يوم من السنة أصومه أحب إلي من يوم عرفة ” . إسناده صحيح .

قال الشيخ العلامة ابن باز رحمه الله : ” والسنة للحجاج الإفطار ، لأنه أقوى للدعاء وأنشط على أعمال الحج ، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صوم يوم عرفة  في عرفة  ، فلا يجوز للحجاج أن يصوموا ، وهذا هو الأرجح ، وقال جماعة من أهل العلم أنه يكره لهم أن يصوموا ، وظاهر النهي التحريم ” .

عباد الله .. فعلى المسلم أن يحافظ على الأسباب التي يرجى بها العتق من النار ومغفرة الذنوب وذلك بالصيام والإكثار من الذكر والدعاء  في يوم عرفة  بإخلاص وصدق .

عن عبد الله بن عمر قال : ” كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ” .

وخرجه الترمذي ولفظه : ” خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير ” .

أحبتي في الله .. ذكر الأنباري في سبب تسمية عرفة بهذا الاسم ، لأن جبريل علّم إبراهيم عليهما السلام المناسك كلها بعرفة فقال : أعرفت في أي موضع تطوف ؟ وفي أي موضع تسعى ؟ وفي أي موضع تقف ؟ وفي أي موضع تنحر ؟ فقال له : عرفت ، فسميت عرفة ، وقال الضحاك : إنما سمي بذلك ، لأن آدم عليه السلام وقع بالهند ، وحواء بجدة فاجتمعا بعرفة وتعارفا ، أو لأن الناس يعترفون فيها بذنوبهم ، وقيل : غير ذلك .

ومن أسماء يوم عرفة :

  1. يوم التمام .
  2. ومن أسمائه : المشهود ، فقد خرج الترمذي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” اليوم الموعود : يوم القيامة ، واليوم المشهود : يوم عرفة ، والشاهد : يوم الجمعة ” حسنه الألباني ، والشيء إذا تعددت أسماؤه دل على عظمته وشرفه .

وليوم عرفة فضائل متعددة نذكر منها :

  1. أنه يوم إكمال الدين وإتمام النعمة .
  2. أنه عيد لأهل الإسلام كما قاله عمر بن الخطاب وابن عباس رضي الله عنهما .
  3. أن صيامه كفارةُ سنتين .
  4. أنه يوم مغفرة الذنوب والتجاوز عنها ، والعتق من النار .

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتجاوز عنا وعنكم وأن يعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا والمسلمين من النار اللهم آمين .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على النبي المجتبى صلوات ربي وسلامه عليه أما بعد :

قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا } (41) سورة الأحزاب .

وقال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } (58) سورة يونس .

لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كان لهم يومان يلعبون فيهما فقال : ” إن الله قد أبدلكم يومين خيراً منهما يوم الفطر والأضحى ”  فأبدل الله هذه الأمة بيومي اللعب واللهو يومي الذكر والشكر والمغفرة والعفو .

فهذه أعياد المسلمين في الدنيا كلها وعند إكمال طاعة مولاهم الملك الوهاب وحيازتهم لما وعدهم من الأجر والثواب .

فالعيد هو موسم الفرح السرور ، وأفراح المؤمنين وسرورهم في الدنيا إنما هي بمولاهم ، إذا فازوا بإكمال طاعته ، وحازوا ثواب أعمالهم بوثوقهم بوعده لهم عليها بفضله ومغفرته ،

قال الحسن : كل يوم لا يُعصى الله فيه فهو عيد ، كل يوم يقطعه المؤمن في طاعة مولاه وذكره وشكره فهو له عيد .

أحبتي في الله .. ليس العيد لمن لبس الجديد إنما العيد لمن طاعاته تزيد ، ليس العيد لمن تجمل باللباس والركوب إنما العيد لمن غفرت له الذنوب ، في ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة له على العبيد فمن ناله منها شيء فله عيد ، وإلا فهو مطرود بعيد .

إن يوما جامعا شملى بهم

ذاك عيدٌ ليس لي عيد سواه

وأما أعياد المؤمنين في الجنة – نسأل الله أن يجعلني وإياكم من أهل الجنة –  فهي أيام زيارتهم لربهم عز وجل فيزورونه ويكرمهم غاية الكرامة ويتجلى لهم وينظرون إليه ، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك ، وهو الزيادة التي قال الله تعالى فيها : (( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )) ليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه .

واعلموا رحمني الله وإياكم إن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه وثنى بملائكته فقال : ” إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما ” آثره بها من بين الرسل وخصكم بها من بين الأمم ، فاللهم صل وسلم على نبينا محمد . انتهى .

أيها الناس إني داعٍ فأمنوا

الدعاء

اللهم تقبل من الحجاج حجهم ومن الصائمين صومهم ، اللهم سلم الحجاج والمعتمرين وردهم إلى ديارهم سالمين غانمين ، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه  اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين .

عباد الله .. { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *