قطوف من سيرة العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

                                           ” في لفظ ( القمة ) شيئ يقول لك : قم ” – الراعي –

العلامة الشيخ : محمد ناصر الدين الألباني ( 1914 – 1999 ) قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله : ” ما رأيت تحت أديم السماء عالماً بالحديث في العصر الحديث مثل العلامة محمد ناصر الدين الألباني ” . والعلامة الشيخ الألباني أحد أبرز العلماء المسلمين في العصر الحديث ويعتبر الشيخ الألباني من علماء الحديث البارزين المتفردين في علم الجرح والتعديل والشيخ الألباني حجة في مصطلح الحديث وقال عنه العلماء المحدثون : إنه أعاد ابن حجر العسقلاني والحافظ بن كثير وغيرهم من علماء الجرح والتعديل . سيرة الشيخ الألباني سيرة عطرة تفوح من جنبات كلماتها رائحة المسك والعود وشذى جنان الخلود .

ولد الشيخ محمد ناصر الدين بن الحاج نوح الألباني عام 1333هـ الموافق 1914م في مدينة أشقودرة عاصمة دولة ألبانيا – حينئذ – عن أسرة فقيرة متدينة يغلب عليها الطابع العلمي فكان والده مرجعاً للناس يعلمهم ويرشدهم . هاجر بصحبة والده إلى دمشق الشام للإقامة الدائمة فيها بعد أن انحرف أحمد زاغو ( ملك ألبانيا ) ببلاده نحو الحضارة الغربية العلمانية . أتم العلامة الألباني دراسته الابتدائية في مدرسة الإسعاف الخيري في دمشق بتفوق . نظراً لرأي والده الخاص في المدارس النظامية من الناحية الدينية فقد قرر عدم إكمال الدراسة النظامية ووضع له منهجاً علمياً مركزاً قام من خلاله بتعليمه القرآن الكريم والتجويد والنحو والصرف وفقه المذهب الحنفي وقد ختم الألباني على يد والده حفظ القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم كما درس على الشيخ سعيد البرهاني مراقي الفلاح في الفقه الحنفي وبعض كتب اللغة والبلاغة ، هذا في الوقت الذي حرص فيه على حضور دروس وندوات العلامة بهجة البيطار .

أخذ عن أبيه مهنة إصلاح الساعات فأجادها حتى صار من أصحاب الشهرة فيها وأخذ يتكسب رزقه منها وقد وفرت له هذه المهنة وقتاً جيداً للمطالعة والدراسة وهيأت له هجرته للشام معرفة باللغة العربية والإطلاع على العلوم الشرعية من مصادرها الأصلية .

تعلمه الحديث : على الرغم من توجيه والد الألباني المنهجي له بتقليد المذهب الحنفي وتحذيره الشديد من الاشتغال بعلم الحديث فقد أخذ الألباني بالتوجه نحو علم الحديث وعلومه فتعلم الحديث في نحو العشرين من عمره متأثراً بأبحاث مجلة المنار التي كان يصدرها الشيخ محمد رشيد رضا ( رحمه الله ) وكان أول عمل حديثي قام به هو نسخ كتاب ” المغني عن حمل الأسفار في تخريج ما في الأحياء من الأخبار ” للحافظ العراقي ( رحمه الله ) مع التعليق عليه .

كان ذلك العمل فاتحة خير كبير على الشيخ الألباني حيث أصبح الاهتمام بالحديث وعلومه شغله الشاغل فأصبح معروفاً بذلك في الأوساط العلمية بدمشق حتى إن إدارة المكتبة الظاهرية بدمشق خصصت غرفة خاصة له ليقوم فيها بأبحاثه العلمية المفيدة بالإضافة إلى منحه نسخة من مفتاح المكتبة حيث يدخلها وقت ما شاء أما عن التأليف والتصنيف فقد ابتدأهما في العقد الثاني من عمره ،

وكان أول مؤلفاته الفقهية المبنية على معرفة الدليل والفقه المقارن كتاب ” تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد ” وهو مطبوع مراراً ومن أوائل تخاريجه الحديثية المنهجية أيضاً كتاب ” الروض النضير في ترتيب وتخريج معجم الطبراني الصغير ” ولا يزال مخطوطاً . كان لاشتغال الشيخ الألباني بحديث رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أثره البالغ في التوجه السلفي للشيخ وقد زاد تشبثه وثباته على هذا المنهج مطالعته لكتب شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم وغيرهما من أعلام المدرسة السلفية .

 حمل الشيخ الألباني راية الدعوة إلى التوحيد والسنة في سوريا حيث زار الكثير من مشايخ دمشق وجرت بينه وبينهم مناقشات حول مسائل التوحيد والإتباع والتعصب المذهبي والبدع فلقي الشيخ لذلك المعارضة الشديدة من كثير من متعصبي المذاهب ومشايخ الصوفية والخرافين والمبتدعة فكانوا يثيرون عليه العامة والغوغاء ويشيعون عنه بأنه ” وهابي ضال ” ويحذرون الناس منه ، هذا في الوقت الذي وافقه على دعوته أفاضل العلماء المعروفين بالعلم والدين في دمشق والذين حضوه على الاستمرار قدماً في دعوته ومنهم العلامة بهجت البيطار ، الشيخ عبد الفتاح الإمام رئيس جمعية الشبان المسلمين في سوريا ، الشيخ توفيق البزرة وغيرهم من أهل الفضل والصلاح ( رحمهم الله ) .

نشاط الشيخ الألباني الدعوي : – نشط الشيخ في دعوته من خلال :

 أ) دروسه العلمية التي كان يعقدها مرتين كل أسبوع حيث يحضرها طلبة العلم وبعض أساتذة الجامعات ومن الكتب التي كان يدرسها في حلقات علمية : – فتح المجيد لعبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب . – الروضة الندية شرح الدرر البهية للشوكاني شرح صديق حسن خان . – أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف . – الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير شرح أحمد شاكر . – منهاج الإسلام في الحكم لمحمد أسد . – فقه السنة لسيد سابق .

 ب) رحلاته الشهرية المنتظمة التي بدأت بأسبوع واحد من كل شهر ثم زادت مدتها حيث كان يقوم فيها بزيارة المحافظات السورية المختلفة بالإضافة إلى بعض المناطق في المملكة الأردنية قبل استقراره فيها مؤخراً هذا الأمر دفع بعض المناوئين لدعوة الألباني إلى الوشاية به عند الحاكم مما أدى إلى سجنه .

صبره على الأذى وهجرته : في أوائل 1960م كان الشيخ يقع تحت مرصد الحكومة السورية مع العلم أنه كان بعيداً عن السياسة وقد سبب ذلك نوعاً من الإعاقة له .

فقد تعرض للاعتقال مرتين الأولى كانت قبل 67 حيث اعتقل لمدة شهر في قلعة دمشق وهي نفس القلعة التي اعتقل فيها شيخ الإسلام ابن تيمية وعندما قامت حرب 67 رأت الحكومة أن تفرج عن جميع المعتقلين السياسيين . لكن بعدما اشتدت الحرب عاد الشيخ إلى المعتقل مرة ثانية ولكن هذه المرة ليس في سجن القلعة بل في سجن الحسكة شمال شرق دمشق وقد قضى فيه الشيخ ثمانية أشهر وخلال هذه الفترة حقق مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري واجتمع مع شخصيات كبيرة في المعتقل . أعماله وإنجازاته :

 لقد كان للشيخ جهود علمية وخدمات عديدة منها : 1

– كان الشيخ – رحمه الله – يحضر ندوات العلامة الشيخ محمد بهجت البيطار – رحمه الله – مع بعض أساتذة المجمع العلمي بدمشق منهم عز الدين التنوحي – رحمه الله – إذ كانوا يقرؤون ” الحماسة ” لأبي تمام . 2

– اختارته كلية الشريعة في جامعة دمشق ليقوم بتخريج أحاديث البيوع الخاصة بموسوعة الفقه الإسلامي التي عزمت الجامعة على إصدارها عام 1955م .

 3- اختير عضواً في لجنة الحديث التي شكلت في عهد الوحدة بين مصر وسوريا للإشراف على نشر كتب السنة وتحقيقها . 4- طلبت إليه الجامعة السلفية في بنارس ” الهند ” أن يتولى مشيخة الحديث فاعتذر عن ذلك لصعوبة اصطحاب الأهل والأولاد بسبب الحرب بين الهند وباكستان آنذاك .

 5- طلب إليه معالي وزير المعارف في المملكة العربية السعودية الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ عام 1388هـ أن يتولى الإشراف على قسم الدراسات الإسلامية العليا في جامعة مكة وقد حالت الظروف دون تحقيق ذلك .

6- اختير عضواً للمجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة من عام 1395هـ إلى 1398هـ .

 7- لبى دعوة من اتحاد الطلبة المسلمين في أسبانيا وألقى محاضرة مهمة طبعت فيما بعد بعنوان ” الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام ” .

 8- زار قطر وألقى فيها محاضرة بعنوان ” منزلة السنة في الإسلام ” .

 9- انتدب من سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله رئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء للدعوة في مصر والمغرب وبريطانيا للدعوة إلى التوحيد والاعتصام بالكتاب والسنة والمنهج الإسلامي الحق .

 10- دعي إلى عدة مؤتمرات حضر بعضها واعتذر عن كثير بسبب انشغالاته العلمية الكثيرة .

 11- زار الكويت والإمارات وألقى فيهما محاضرات عديدة وزار أيضا عدداً من دول أوروبا والتقى فيها بالجاليات الإسلامية والطلبة المسلمين وألقى دروساً علمية مفيدة .

 12- للشيخ مؤلفات عظيمة وتحقيقات قيمة ، ربت على المئة وترجم كثير منها إلى لغات مختلفة وطبع أكثرها طبعات متعددة ومن أبرزها : إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل وسلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها ، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة ، وصفة صلاة النبي من التكبير إلى التسليم كأنك تراها .

 13- ولقد كانت قررت لجنة الاختيار لجائزة الملك فيصل العالمية للدراسات الإسلامية منح الجائزة عام 1419هـ / 1999م وموضوعها ” الجهود العلمية التي عنيت بالحديث النبوي تحقيقاً وتخريجاً ودراسة ” لفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني السوري الجنسية تقديراً لجهوده القيمة في خدمة الحديث النبوي تخريجاً وتحقيقاً ودراسة وذلك في كتبه التي تربو على المئة . وفاته : توفي العلامة الألباني قبيل يوم السبت في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة 1420هـ الموافق الثاني من أكتوبر 1999م ودفن بعد صلاة العشاء . وقد عجل بدفن الشيخ لأمرين اثنين :

 الأول : تنفيذ وصيته كما أمر في وصيته .

 الثاني : الأيام التي مر بها موت الشيخ – رحمه الله – والتي تلت هذه الأيام كانت شديدة الحرارة فخشي أنه لو تأخر بدفنه أن يقع بعض الأضرار أو المفاسد على الناس الذين يأتون لتشييع جنازته رحمه الله فلذلك أوثر أن يكون دفنه سريعاً . بالرغم من عدم إعلام أحد عن وفاة الشيخ إلا المقربين منهم حتى يعينوا على تجهيزه ودفنه بالإضافة إلى قصر الفترة ما بين وفاة الشيخ ودفنه إلا أن آلاف المصلين قد حضروا صلاة جنازته حيث تداعى الناس بأن يخبر كل منهم أخاه . وجاء في وصيته رحمه الله : وأوصي بمكتبي – كلها – سواء ما كان منها مطبوعاً أو تصويراً أو مخطوطاً – بخطي أو بخط غيري – لمكتبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة ؛ لأن لي فيها ذكريات حسنة في الدعوة للكتاب والسنة وعلى منهج السلف الصالح – يوم كنت مدرساً فيها . راجياً من الله تعالى أن ينفع بها روادها كما نفع بصاحبها – يومئذ – طلابها وأن ينفعني بهم وبإخلاصهم ودعواتهم . وهكذا رحل الإمام ناصر الدين الذي أخذ – كما يقال – من اسمه نصيباً فأصبح بحق ناصر دين الله وسنة نبيه محمد بن عبد الله . رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجمعنا وإياه في جنات النعيم .

 المرجع من كتاب :عظماء بلا مدارس

 للمؤلف أ / عبد الله صالح الجمعة حفظه الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *