بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام أحمد بن حنبل ( 164 هـ – 241 هـ )
” ملأى السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ “
ولد الإمام أحمد بن حنبل في ربيع الأول سنة 164 هـ ببغداد ونسبه عربي فهو شيباني في نسبه لأبيه وأمه . ورث عن أبويه قوة العزم وعزة النفس والصبر واحتمال المكاره وكذلك الإيمان الراسخ القوي .
توفي والده وهو صغير فتعهدته أمه ووجهته إلى دراسة العلوم الدينية فحفظ القرآن وتعلم اللغة . وفي الخامسة عشرة من عمره بدأ دراسة الحديث وحفظه وفي العشرين من عمره بدأ في رحلات طلب العلم فذهب إلى الكوفة ومكة والمدينة والشام واليمن ثم رجع إلى بغداد ودرس فيها على الشافعي أثناء قيام الشافعي برحلاته إليها في المدة من 195 إلى 197 هـ ، وكان من أكبر تلاميذ الشافعي ببغداد .
كما تعلم أحمد على يد كثير من علماء العراق منهم إبراهيم بن سعيد وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد ويزيد بن هارون وأبو داود الطيالسي ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي .
بعد ذلك أصبح مجتهداً صاحب مذهب مستقل وبرز على أقرانه في حفظ السنة وجمع شتاتها حتى أصبح إمام المحدثين في عصره ، يشهد له في ذلك كتابه المسند الذي حوى نيفاً وأربعين ألف حديث . وقد أعطى الله أحمد من قوة الحفظ ما يتعجب له ، يقول الشافعي : خرجت من بغداد وما خلفت فيها أفقه ولا أورع ولا أزهد ولا أعلم ولا أحفظ من ابن حنبل . وكان ابن حنبل قوي العزيمة صبوراً ثابت الرأي قوي الحجة ، جريئاً في التكلم عند الخلفاء مما كان سبباً له في محنته المشهورة . وهي أنه في عصر خلافة المأمون العباسي أثيرت في سنة 212 هـ مسألة القول بخلق القرآن التي كانت عقيدة المعتزلة . حتى قيل : من لم يعترف بهذه المسألة من العلماء والفقهاء فعقابه الحرمان من وظائف الدولة مع العقاب بالضرب والسجن . وكان ابن حنبل على خلاف ما يقولون ولم يعترف بقولهم وكان في ذلك كالطود الثابت الراسخ لم يركن إلى ما قاله المأمون
فكان نتيجة ذلك أن طبق عليه العقاب ومنع من التدريس وعذِّب وسجن في سنة 218 هـ على يد إسحاق بن إبراهيم الخزاعي نائب المأمون ثم سيق مكبلاً بالحديد حيث يقيم المأمون خارج بغداد ، غير أن الخليفة المأمون مات قبل وصول أحمد بن حنبل إليه . وتولى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم فسار على طريقة المأمون في هذه المسألة بوصية منه فسجن أحمد وأمر بضربه بالسياط مرات عدة حتى كان يغمى عليه في كل مرة من شدة الضرب واستمر في ضرب أحمد وتعذيبه نحو ثمانية وعشرين شهراً حتى قال أحمد جلاديه بعد أن تاب : لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة لو ضربتُها في فل لسقط .
ولتبيان عظم صبر الإمام أحمد وقوته في الحق نذكر هذه الحادثة :
أحضر المعتصم للإمام أحمد الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة ويقول : أنا رجل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – حتى أقول به .
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم : كيف أقول ما لم يُقل ؟
فقال المعتصم : قهرنا أحمد .
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم وأحمد ابن دُؤَاد القاضي وبشر المريسي وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن فقال ابن دُؤَاد وبشر للخليفة : اقتله حتى نستريح منه هذا كافر مُضِل .
فقال : إني عاهدتُ الله ألا أقتله بسيف ولا آمر بقتله بسيف ، فقالا له : اضربه بالسياط فقال المعتصم له : وقرابتي من رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول ، فلم يُرهبه ذلك ، فقال المعتصم : أحضروا الجلادين ، فقال المعتصم لواحد منهم : بكم سوطٍ تقتله ؟
قال : بعشرة ، قال : خذه إليك ، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه وشُدَّ في يديه حبلان جديدان ولمَّا جيئ بالسياط فنظر إليها المعتصم قال : ائتوني بغيرها ، ثم قال للجلادين : تقدموا فلمَّا ضُرِبَ سوطاً قال : بسم الله ، فلما ضُرب الثاني قال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما ضُرب الثالث قال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، فلما ضُرب الرابع قال : (( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا )) .
وجعل الرجل يتقدم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب ثم يتنحى ثم يتقدم الآخر فيضربه سوطين ، فلما ضُرب تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له : يا أحمد علام تقتل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق .
قال أحمد : فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال : تريد أن تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول : ويلك ! الخليفة على رأسك قائم ، وقال بعضهم : يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقتله ، وجعلوا يقولون : يا أمير المؤمنين : إنه صائم وأنت في الشمس قائم ، فقال لي : ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول : أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم – حتى أقول به .
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد : تقدم وحرَّضه على إيجاعه بالضرب .
قال الإمام أحمد : فذهب عقلي فأفقت بعد ذلك فإذا الأقياد قد أُطلِقت عني فأتوني بسويق فقالوا لي : اشرب وتقيأ ، فقلت : لستُ أُفطر ثم جيئ بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم فحضرت صلاة الظهر فتقدم ابن سماعة فصلى فلما انفتل من الصلاة قال لي : صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك ، فقلت له : قد صلى عمر – رضي الله عنه – وجرحه يسيل دما ً .
ولما لم يغير أحمد ولم يرجع عن عقيدته ومذهبه أطلق سراحه وعاد إلى التدريس . ثم مات المعتصم سنة 227 هـ وتولى بعده الواثق بالله فأعاد المحنة لأحمد ومنعه مخالطة الناس ومنعه من التدريس أكثر من خمس سنوات حتى توفي الواثق سنة 232 هـ
وتولى الخلافة من بعده المتوكل الذي خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد ، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن وكان ذلك سنة 232 هـ وكذلك نهى المتوكل عن الجدال والمناظرة في الأداء وعاقب عليه وأمر بإظهار الرواية للحديث فأظهر الله به السُّنَّة وأمات به البدعة وكشف عن الخلق تلك الغُمَّة وأنار به تلك الظُلمة وأطلق من كان اعتُقِلَ بسبب القول بخلق القرآن ورفع المحنة عن الناس وكرَّم الإمام أحمد وبسط له يد العون وظل أحمد على منهاجه ثابتاً على رأيه حتى توفي ببغداد .
جمع تلاميذ أحمد من بعده مسائل كثيرة في الفقه والفتوى ودونوها ونقلوها بعضهم عن بعض في مجاميع كبيرة كما صنع ابن قدامة في كتابيه ، المغني والشرح الكبير ولم يدون أحمد مذهبه في الفقه كما لم يمله على أحد من تلاميذه كراهة اشتغال الناس به عن الحديث ، وهو بهذا على غير منهج أبي حنيفة الذي كان يدون عنه تلاميذه في حضوره ، ومالك الذي كان يدون بنفسه وكذا الشافعي ، فالجميع قد تركوا فقهاً مدوناً بخلاف أحمد فلم يترك فقهاً مدوناً ، إلا أن تلاميذه بعده قاموا بتدوين ما سمعوه منه .
ومن هؤلاء التلاميذ :
محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الصحيح ، ومسلم بن الحجاج النيسابوري صاحب الصحيح ، وأبو داود صاحب السنن ، ومن تلاميذه البررة الذين دونوا ما سمعوه من فتاوى وآراء فقهية ولداه صالح ( ت 266 هـ ) وعبد الله ( ت 290 هـ ) ، ومن تلاميذه أيضاً أبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ البغدادي المعروف بالأثرم ( ت 273 هـ ) . وهو من أشهر من دون الفقه لأحمد في كتاب ” السنن في الفقه ” على مذهب أحمد وشواهده من الحديث . ومن أشهرهم أيضاً أبو بكر أحمد بن الخلّال ( ت 311 هـ ) في كتاب الجامع ويقع في عشرين سفراً ، وما دونه أبو بكر في هذا الكتاب يعد نقلاً من تلاميذ أحمد . أما في الحديث فلأحمد مسنده المعروف والمشهور .
وقد بنى الإمام أحمد مذهبه على أصول هي : كتاب الله أولاً ثم سنة رسول الله ثانياً ، ثم فتوى الصحابي الذي لا يعلم له مخالف ، ثم فتوى الصحابي المختلف فيها ، ثم القياس وهو آخر المراتب عنده . وكان أحمد يعترف بالإجماع إذا ما تحقق ولكنه كان يستبعد تحققه ووجوده بجانب هذا كان أحمد يعمل بالاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع متبعاً في ذلك سلف الأمة .
مؤلفاته :
– المسند ويحوي أكثر من أربعين ألف حديث .
– الناسخ والمنسوخ .
– العلل .
– السنن في الفقه .
توفي الإمام أحمد يوم الجمعة سنة 241 هـ وله من العمر سبع وسبعون سنة . وقد اجتمع الناس يوم جنازته حتى ملأوا الشوارع . وحضر جنازته من الرجال مئة ألف ومن النساء ستين ألفاً ، غير من كان في الطرق وعلى السطوح . وقيل أكثر من ذلك .
وقد دفن الإمام أحمد بن حنبل في بغداد . وقيل إنه أسلم يوم مماته عشرون ألفاً من اليهود والنصارى والمجوس ، وأنّ جميع الطوائف حزنت عليه وأنه كانت له كرامات كثيرة وواضحة .
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل ، الذي ابتُليَ بالضرَّاء فصبر وبالسرَّاء فشكر ووقف هذا الموقف الإيماني كأنه جبلٌ شامخ تتكسَّرُ عليه المِحَنْ وضَرَبَ لنا مثلاً في الثبات على الحق .
لطفاً قل ( اللهم انصر عبادك في سوريا )
المرجع من كتاب : أيتام غيروا مجرى التاريخ
للمؤلف أ / عبد الله صالح الجمعة حفظه الله