بسم الله الرحمن الرحيم
الإمام ابن الجوزي ( 511 هـ – 597 هـ ) “
حدود الطموح : ينبغي للعائل أن ينتهي لغاية ما يمكنه ، فلو كان يتصور للآدمي صعود السماوات ، لرأيت من أقبح النقائص رضاه بالأرض ” –
ابن الجوزي – الشيخ الإمام العلامة الحافظ المفسِّر المحدث المؤرخ ، شيخ الإسلام عالم العراق . كتب بخطه كثيراً من كتبه التي قاربت المئتين . كان ذا صيت بعيد في الوعظ ، يحضر مجالسه الملوك والوزراء وبعض الخلفاء والأئمة والكبراء ، وقيل : إنه حضر في بعض مجالسه مائة ألف . وقال : كتبت بأصبعي ألفي مجلد وتاب على يدي مائة ألف ، وأسلم على يدي عشرون ألفاً . فمن هو ابن الجوزي ؟ هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبيد الله بن عبد الله بن حمادي بن أحمد بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن القاسم بن النضر بن القاسم بن محمد بن عبد الله القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – القرشي التيمي البكري البغدادي الفقيه الحنبلي الحافظ المفسر الواعظ المؤرخ الأديب المعروف بابن الجوزي ، رحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته . مولده : ولد العلامة ابن الجوزي بـ ” درب حبيب ” الواقعة في بغداد ، واختلف في تاريخ ولادته : قيل : سنة 508 ، وقيل سنة 509 ، وقيل سنة 510 هجرية ، والأرجح أنه ولد بعد العشرة كما يظهر ذلك في بعض مؤلفاته في الوعظ ، حيث يقول : إنه بدأ التصنيف سنة 528 هـ ، وله من العمر 17 سنة ولما نقل عنه أيضا في ذيل تاريخ بغداد لابن النجار ( أنه كان يقول : لا أتحقق مولدي غير أنه مات والدي في سنة 514 هـ ، وقالت الوالدة كان لك من العمر ثلاث سنين ) . وعلى هذا تكون ولادته سنة 511 هـ ، 1117 م . وكان أهله تجار نحاس ، ولهذا يوجد في بعض سماعاته القديمة : عبد الرحمن بن علي الجوزي الصفار . نشأته : توفي والده علي بن محمد وله من العمر ثلاث سنين ، ولكن ذلك لم يؤثر في نشأته نشأة صالحة ، حيث أبدله الله عمته مربية مخلصة تعطيه كل عطفها وعنايتها وتسهر على خدمته وتعليمه ، فهي التي حملته إلى مسجد أبي الفضل بن ناصر ، فتلقى منه الرعاية التامة والتربية الحسنة حتى أسمعه الحديث . وعلى الرغم من فراق والده في طفولته فقد ساعده في توجهه إلى طلب العلم وتفرغه لذلك ثروة أبيه الموسر ، فقد ترك له من الأموال الشيئ الكثير ولهذا نراه – رحمه الله – يكثر الكلام عن نفسه في أكثر من كتاب ، فيبين أنه نشأ في النعيم ، ويقول في صيد الخاطر : ( فمن ألف الترف فينبغي أن يتلطف بنفسه إذا أمكنه ، وقد عرفت هذا من نفسي ، فإني ربيت في ترف ، فلما ابتدأت في التقلل وهجر المشتهى أثر معي مرضا قطعني عن كثير من التعبد ، حتى أني قرأت في أيام كل يوم خمسة أجزاء من القرآن ، فتناولت يوما ما لا يصلح فلم أقدر في ذلك اليوم على قراءتها ، فقلت : إن لقمة تؤثر قراءة خمسة أجزاء بكل حرف عشر حسنات ، إن تناوله لطاعة عظيمة وإن مطعما يؤذي البدن فيفوته فعل خير ينبغي أن يهجر ، فالعاقل يعطي بدنه من الغذاء ما يوافقه . فلما بلغ ابن الجوزي رشده شعر بنفسه وبال الترف في طلب العلم فقنع باليسير واستسهل الصعاب متحملا كل الشدائد والمحن ، فهمته في طلب العلم ، أنسته كل الترف ، فانكب على طلب العلم – وهو ألذ من كل لذيذ – فيقول عن نفسه : ” ولقد كنت في مرحلة طلبي العلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل ، لأجل ما أطلب وأرجو ” . كنت في زمان الصبا آخذ معي أرغفة يابسة فأخرج في طلب الحديث وأقعد على نهر عيسى فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء فكلما أكلت لقمة شربت عليها شربة وعين همتي لا ترى إلا لذة تحصيل العلم ) . وقد عاش ابن الجوزي منذ طفولته ورعا تقيا زاهدا ، لا يحب مخالطة الناس خوفا من ضياع الوقت ووقوع الهفوات ، فصان بذلك نفسه وروحه ووقته : يقول الإمام ابن كثير عند ترجمته له : وكان – وهو صبي – دينا منجمعا على نفسه لا يخالط أحدا ولا يأكل ما فيه شبهة ولا يخرج من بيته إلا للجمعة وكان لا يلعب مع الصبيان ” . حبه للعزلة : وكان يحب العزلة تقديرا لقيمة الوقت وابتعادا عن الوقوع في اللهو ، يقول في صيد الخاطر : ( فليس في الدنيا أطيب عيشا من منفرد عن العالم بالعلم فهو أنيسه وجليسه قد قنع بما سلم به دينه من المباحات الحاصلة ، لا عن تكلف ولا تضييع دين وارتضى بالعز عن الذل للدنيا وأهلها والتحف بالقناعة باليسير ، إذا لم يقدر على الكثير ، بهذا الاستعفاف يسلم دينه ودنياه واشتغاله بالعلم يدله على الفضائل ويفرجه عن البساتين فهو يسلم من الشيطان والسلطان والعوام بالعزلة ولكن لا يصلح هذا إلا للعالم فإنه إذا اعتزل الجاهل فاته العلم فتخبط ) . لقد أعجب بشخصيته وجهده الجبار علماء أجلاء من بعده فمدحوه وأثنوا عليه : يقول ابن خلكان : ( إنه كان علامة عصره وإمام وقته في الحديث وفي صناعة الوعظ ، صنف في فنون كثيرة ) وذكر بعض مؤلفاته ، ثم قال : ( وبالجملة فكتبه تكاد لا تعد وكتب بخطه شيئا كثيرا ، والناس يغالون في ذلك حتى قالوا : إنه جمعت الكراريس التي كتبها وحسبت مدة عمره وقسمت الكراريس على المدة فكان ما خص كل يوم تسع كراريس ) وكان ابن الجوزي كثير الاطلاع ومشغوفا بالقراءة فقد حكى عن نفسه أنه طالع عشرين ألف مجلد أو أكثر وهو ما يزال طالباً . يقول في صيد الخاطر : ( سبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات ، فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره ويحرك عزيمته للجد ، وما يخلو كتاب من فائدة وأعوذ بالله من سير هؤلاء الذين نعاشرهم ، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المبتدئ ولا صاحب ورع فيستفيد منه الزاهد ، فالله الله ، وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم ، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم ) فقد استطاع بهذا الاطلاع الواسع أن يتفوق على كثير من معاصريه في المشاركة في عديد من العلوم والفنون فألف في التفسير والحديث والطب والوعظ وغيرها الشيء الكثير ويبدو أن ابن الجوزي كان ماهرا في التفسير وفي التاريخ والوعظ ومتوسطا في الفقه وأما بالنسبة إلى متون الحديث فهو واسع الاطلاع فيها لكنه غير مصيب في الحكم على الصحيح والسقيم . يقول الذهبي عند ترجمة ابن الجوزي : ( كان مبرزا في التفسير والوعظ والتاريخ ومتوسطا في المذهب وله في الحديث اطلاع تام على متونه ، وأما الكلام على صحيحه وسقيمه فما له فيه ذوق المحدثين ولا نقد الحفاظ المبرزين ) . وقال الذهبي في ” التاريخ الكبير ” : ( لا يوصف ابن الجوزي بالحفظ عندنا باعتبار الصنعة بل باعتبار كثرة اطلاعه وجمعه ) . مدرسة ابن الجوزي : كان له دور كبير ومشاركة فعالة في الخدمات الاجتماعية ، وقد بنى مدرسة بدرب دينار وأسس فيها مكتبة كبيرة ووقف عليها كتبه وكان يدرس أيضاً بمدارس عدة ببغداد . قال الحافظ ابن الدبيثي عن ابن الجوزي : ( كان من أحسن الناس كلاما وأتمهم نظاما وأعذبهم لسانا وأجودهم بيانا وبورك في عمره وعمله فروى الكثير وسمع الناس منه أكثر من أربعين سنة وحدث بمصنفاته مراراً . منزلته في الوعظ : لم يكن جهاده محصورا في القلم والتأليف إنما كان له شأن عظيم وشهرة كبيرة في الوعظ والخطب والدعوة والإرشاد بين الخواص والعوام. يقول ابن كثير ، رحمه الله : ( تفرد ابن الجوزي بفن الوعظ الذي لم يسبق إليه ولا يلحق شأوه فيه وفي طريقته وشكله وفي فصاحته وبلاغته وعذوبته وحلاوة ترصيعه ونفوذ وعظه وغوصه في المعاني البديعة وتقريبه الأشياء الغريبة بما يشاهد من الأمور الحسية بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك بحيث يجمع المعاني الكثيرة في الكلمة اليسيرة ) . كان لا يخاف في الله لومة لائم وكان يحضر في وعظه الروساء والخلفاء وقد التفت مرة إلى ناحية الخليفة المستضيء العباس وهو يخطب فقال : يا أمير المؤمنين إن تكلمت خفت منك وإن سكت خفت عليك وإن قول القائل لك : اتق الله خير لك من قوله لكم : أنتم أهل البيت مغفور لكم … وأضاف قائلاً : لقد كان عمر بن الخطاب يقول : إذا بلغني من عامل ظلم فلم أغيره فأنا الظالم . وهكذا دافع ابن الجوزي عن الحق بدون خوف لومة لائم وحارب البدع والمنكرات والتعصب في المذاهب والتقليد الأعمى وقد كان يعترف بنجاحه في هذا المجال فيقول : ( وظهر أقوام يتكلمون بالبدع ويتعصبون في المذاهب فأعانني الله سبحانه وتعالى عليهم وكانت كلمتنا هي العليا ) . محنته في سبيل الحق : وقد امتحن ابن الجوزي رحمه الله في آخر عمره ، وذلك أن الوزير ابن يونس الحنبلي كان في ولايته قد عقد مجلسا للركن عبد السلام بن عبد الوهاب ابن عبد القادر الجيلي وأحرقت كتبه . وكان فيها من الزندقة وعبادة النجوم ورأي الأوائل شيء كثير ، وذلك بمحضر من ابن الجوزي وغيره من العلماء وانتزع الوزير منه مدرسة جده وسلمها إلى ابن الجوزي . فلما ولي الوزارة ابن القصاب – وكان رافضيا خبيثا – سعى في القبض على ابن يونس وتتبع أصحابه فقال الركن : أين أنت عن ابن الجوزي فإنه ناصبيّ ، ومن أولاد أبي بكر فهو أكبر أصحاب ابن يونس وأعطاه مدرسة جدي وأحرقت كتبه بمشورته ؟ فكتب ابن القصاب إلى الخليفة الناصر – وكان الناصر له ميل إلى الشيعة – وكان يقصد إيذاء ابن الجوزي فأمر بتسليمه إلى الركن عبد السلام فجاء إلى دار الشيخ وشتمه وأهانه وختم على داره وشتت عياله ، ثم أخذ في سفينة إلى واسط فحبس بها في بيت وبقي يغسل ثوبه ويطبخ ، ودام على ذلك خمس سنين وما دخل فيها حماماً ، فالمحنة بشتى أنواعها والصبر عليها والاستمرار على الوقوف في وجه الباطل والظلم والطاغوت من دأب العلماء العاملين والمجاهدين المخلصين . وقد رسم لنا العلامة ابن الجوزي من خلال حياته سلسلة متصلة من الكفاح والجهد الطويل والربط بين العلم والعمل ربطاً وثيقاً . وقد عقد فصلا مستقلا في كتابه صيد الخاطر تحت عنوان العلماء العاملون ” مدح فيه من يستحق المدح من أقرانه وذم من يستحق الذم ثم قال : ( فالله الله في العلم بالعمل فإنه الأصل الأكبر ، والمسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به ففاتته لذات الدنيا وخيرات الآخرة فقدم مفلسا مع قوة الحجة عليه ) . وقد ألف ابن الجوزي في مشيخته كتابا خاصا ذكر فيه حوالي تسعة وثمانين شيخا ونرى فيه حسن اختياره للمشائخ حيث تتلمذ على طائفة من خيرة أعلام عصره ويذكر اهتمامه في اختيار أبرع وأفهم المشائخ في بداية كتابه المذكور حيث قال : حملني شيخنا ابن ناصر إلى الأشياخ في الصغر وأسمعني العوالي وأثبت سماعاتي كلها بخطه وأخذ لي إجازات منهم فلما فهمت الطلب كنت ألازم من الشيوخ أعلمهم وأوثر من أرباب النقل أفهمهم فكانت همتي تجويد المدد لا تكثير العدد ، فمن مشائخه : 1- أبو بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن الربيع بن ثابت . 2- أبو بكر محمد بن الحسن بن علي بن إبراهيم المعروف بالمزرعي . 3- أبو الحسن علي بن عبد الواحد الدينوري . 4- أبو الفتح عبد الملك بن أبي القاسم الكروخي . 5- أبو سعد أحمد بن محمد بن الحسن بن علي البغدادي . تلامذته : من تلامذته : 1- الحافظ عبد الغني عبد الواحد بن علي بن سرور . 2- يوسف بن فرغلي بن عبد الله أبو المظفر الواعظ . 3- أحمد بن عبد الدائم بن نعمة الكاتب المحدث . وفاته : بعد أن عاش رحمه الله داعيا مرشدا كاتبا بارعا زاهدا مخلصا، قرابة تسعين عاما انتقل إلى جوار ربه ببغداد . وكانت وفاته ليلة الجمعة ( 12 رمضان 597 هـ ) بين العشائين ، فغسل وقت السحر واجتمع أهل بغداد وحملت جنازته على رؤوس الناس وكان الجمع كثيرا جدا وما وصل إلى حفرته إلا وقت صلاة الجمعة والمؤذن يقول : الله أكبر ، ودفن بباب حرب بالقرب من مدفن الإمام أحمد بن حنبل وكان ينشد حال احتضاره يخاطب ربه : يا كثير العفو عمن كثر الذنب لديـه جاءك المذنب يرجو الصفح عن جرم يديه أنا ضيف وجزاء الضيف إحسان إليـــــــه فرحمه الله رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته ونفعنا بعلومه وكتبه التي قاربت المئتين إذ أورد ابن رجب عن القطيعي في تاريخه أنه ثبت التصانيف التي كتبها ابن الجوزي بخطه فذكر فيه حوالي 199 كتاباً .
لطفا ً ( قل اللهم ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء )
المرجع من كتاب : أيتام غيروا مجرى التاريخ للمؤلف أ / عبد الله صالح الجمعة حفظه الله