بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة وفي الجوار الطيب الذي سعدت به حيناً وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنة المطهرة والسيرة العطرة . ولله المنة على ما أولى من نعمه ولعله ” جل شأنه ” يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا في نطاق الصراحة فلا بد أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم ” صلى الله عليه وسلم ” مهما أكنوا له من حب وأدمنوا من صلوات لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهفين ويعودون إلى موطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظهم ويود لو ظفر بما نالوا .
أما إن محبة رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” واجبة ، فهذا ما لا يماري فيه مؤمن ، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود ، ولكن أن هذه العاطفة مظهر الولاء له فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان . إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطناً للأوس والخزرج في الجاهلية الأولى وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديماً وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج والزوار وهم يؤثرون الجوار العاطل على العودة للعمل في بلادهم ويسمون ذلك هجرة فهل ذلك إسلام أو حب لرسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” ؟
أذكر أنه قابلني نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فراراً بدينهم من الفتن فأفهمتهم أنهم فارون من الزحف لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون وحدهم عبء هذا الكفاح .
إن هذا الحب لرسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” غير مفهوم وهذه الهجرة لمدينته غير متقبلة وصلة نبي الله بعباد الله أشد وأحكم من أن تأخذ هذه السبل الشاردة الملتوية .
إن أعداء الإسلام تمكنوا – في غفلة أهله – أن يصدعوا بناءه ويجعلوه أنقاضاَ فكيف يترك تراث محمد ” صلى الله عليه وسلم ” نهباً للعوادي ؟ وكيف يمهد للجاهلية الأولى أن تعود ؟ وكيف يقع هذا التبدل الخطير في سكون ؟ بل في مظهر من الحب لرسول الله ” صلى الله عليه وسلم “
< فليفقه المسلمون سيرة رسولهم العظيم >
وهيهات أن يتم ذلك إلا بالفقه في الرسالة نفسها والإدراك الحق لحياة صاحبها والالتزام الدقيق لما جاء به .
ألا ما أرخص الحب إذا كان كلاماً | وما أغلاه عندما يكون قدوة وذماماً |
إنني أعتذر عن تقصيري في إيفاء هذا الموضوع حقه فشأن رسول الله ” صلى الله عليه وسلم ” كبير والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أرق وذكاء أنفذ وحسبي أن ذاك جهدي .
اللهم صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد .
المرجع :
فقه السيرة .
محمد الغزالي رحمه الله.
ط / دار القلم ” ص 8 – 9 ” .
فصل : المقدمة .