بسم الله الرحمن الرحيم
محاولات سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما .
إن الكتب التاريخية تروي لنا مظاهر حقد أعداء الدين الإسلامي منذ ولادة نبي الهدى والرحمة صلوات الله وسلامه عليه . وذلك بعد فشلهم في مواجهته صلى الله عليه وسلم بالدليل والبرهان ، ومن أبشع هذه المظاهر محاولاتهم لقتله صلى الله عليه وسلم والتي باءت بالفشل لأن الله تعالى قد وعده بالعصمة . قال تعالى : (( والله يعصمك من الناس )) (1) .
وبعد عجزهم عن النيل منه صلى الله عليه وسلم في حياته استمروا في الكيد والعداء بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ويتمثل ذلك في محاولاتهم لسرقة جسده الشريف من قبره المنيف . وأنى لهم ذلك وقد وعد الله نبيه بعصمته حيا وميتا . وفي الصفحات التالية بيان لهذه المحاولات ودراسة لبعض جوانبها .
المحاولة الأولى :
إن المحاولة الأولى لنقل الجسد الشريف من الحجرة الشريفة إلى مصر كانت في بداية القرن الخامس الهجري وذلك بإشارة من الحاكم العبيدي الملقب ” بالحاكم بأمر الله ” ( 2) . وعلى يد أبي الفتوح (3) .
وقد ذكر المؤرخون تفصيل هذه المحاولة نقلا عن تاريخ بغداد لابن النجار بسنده قال : أخبرنا أبو محمد عبد الله بن المبارك المقرئ عن أبي المعالي صالح بن شافع الجيلي أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد المعلم ، ثنا أبو القاسم عبد الحليم ابن محمد المغربي أن بعض الزنادقة أشار على الحاكم العبيدي صاحب مصر بنقل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه من المدينة إلى مصر وزيَّنَ له ذلك ، وقال : متى تم لك ذلك شدّ الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر وكانت مَنْقَبَة لسكانها ، فاجتهد الحاكم في مدة وبنى بمصر حائزا وأنفق
(1) سورة المائدة : 67 .
(2) هو سادس الخلفاء العبيديين تولى الحكم في سنة 386 هـ وادعى الألوهية سنة 408 هـ ومات سنة 411 هـ وكان قاسياً سفاكاً للدماء ودروز لبنان يقدسونه معتقدين أن الله قد حل فيه وينتظرون عودته . البداية والنهاية ( 11 / 441 ) .
(3) هو أبو الفتوح الحسن بن جعفر من بني سليمان تولى إمرة مكة والمدينة سنة تسعين وثلاثمائة من الهجرة بأمر الحاكم العبيدي . صبح الأعشى للقلقشندي ( 4 / 299 ) .
عليه مالا جزيلا . قال : وبعث أبا الفتوح لنَبْشِ الموضع الشريف ، فلما وصل إلى المدينة الشريفة وجلس بها حضر جماعة المدنيين وقد عَلِموا ما جاء فيه ، وحضر معهم قارئ يعرف بالزلباني ، فقرأ في المجلس (( و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم )) إلى قوله (( إن كنتم مؤمنين )) فماج الناس ، وكادوا يقتلون أبا الفتوح ومن معه من الجند وما منعهم من السرعة إلى ذلك إلا أن البلاد كانت لهم .
ولما رأى أبو الفتوح ذلك قال لهم : الله أحقُّ أن يُخشى ، والله لو كان على من الحاكم فَوَات الروح ما تعرضْتُ للموضع ، وحصل له من ضيق الصدر ما أزعجه كيف نهض في مثل هذه المخزية ، فما انصرف النهارُ ذلك اليوم حتى أرسل الله ريحاً كادت الأرضُ تزَلْزَلُ من قوتها حتى دحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض ، وهلك أكثرها وخلق من الناس ، فانشرح صدر أبي الفتوح وذهب رَوْعُه من الحاكم لقيام عُذْره من امتناع ما جاء فيه (1) .
المحاولة الثانية :
تفيد المصادر التاريخية أن الحاكم بأمر الله العبيدي حاول مرة أخرى لنبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم لكن هذه المحاولة باءت أيضا بالفشل والخذلان ، وحفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم . وقد ذكر المؤرخون تفصيل هذه المحاولة نقلا عن كتاب تأسي أهل الإيمان فيما جرى على مدينة القيروان لابن سعدون القيرواني ما لفظه :
ثم أرسل الحاكم بأمر الله إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم من ينبش قبر النبي صلى الله عليه وسلم فدخل الذي أراد وسكن دارا بقرب المسجد وحفر تحت الأرض ليصل إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فرأوا أنوارا وسمع صائح يقول : أيها الناس إن نبيكم ينبش ففتش الناس فوجدوهم فقتلوهم .
(1) تحقيق النصرة ص 146 ، 147 الوفا بما يجب لحضرة المصطفى ص 129 وفاء الوفا ( 2 / 652 ، 653) عمدة الأخبار ص 128 ، 129 .
(2) وفاء الوفا ( 2 / 653 ) .
المحاولة الثالثة :
لقد خطط لهذه المحاولة بعض ملوك النصارى ونفذت بواسطة اثنين من النصارى المغاربة سنة 557هـ وقد كان تخطيط هذه المحاولة وتنفيذها بكل دقة ومهارة لكن قدرة الله فوق كل شئ وقد وعد نبيه صلى الله عليه وسلم بالحفظ والعصمة فحفظه وفشلت محاولة النصارى ، وقد ذكر المؤرخون تفاصيل هذه المحاولة فقال السمهودي : وقفت على رسالة قد صنفها العلامة جمال الدين الأسنوي في المنع من استعمال الولاة للنصارى فرأيته ذكر فيها ما لفظه : وقد دعتهم أنفسهم – يعني النصارى – في سلطنة الملك العادل نور الدين الشهيد (1) إلى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ، وذلك أن السلطان المذكور كان له تهجُّد يأتي به بالليل وأوراد يأتي بها ، فنام عقبَ تهجده ، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول : أنْجِدْني أنْقِذْني من هذين ، فاستيقظ فزعا ، ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه ، فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضا مرة ثالثة ، فاستيقظ وقال : لم يبق نوم ، وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي فأرسل خَلْفَه ليلا ، وحكى له جميع ما اتفق له ، فقال له : وما قعودك ؟ اخرجِ الآن إلى المدينة المنورة ، واكتم ما رأيت ، فتجهَّز في بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفرا ، وصحبته الوزير المذكور ومال كثير فقدم المدينة في ستة عشر يوما ، فاغتسل خارجها ودخل فصلى بالروضة وزار ، ثم جلس لا يدري ماذا يصنع فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد : إن السلطان قصد زيارة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأحضر معه أموالا للصدقة فاكتبوا من عندكم ، فكتبوا أهل المدينة كلهم وأمر السلطان بحضورهم ، وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي صلى الله عليه وسلم له فلا يجد تلك الصفة ، فيعطيه ويأمره بالانصراف ، إلى أن انقضت الناس فقال السلطان : هل بقي أحد لم يأخذ شيئاً من الصدقة ؟ قالوا : لا ، فقال : تفكروا وتأملوا ، فقالوا : لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئاً ، وهما صالحان غنيَّان يكثران
(1) هو محمد بن عماد الدين أبو القاسم نور الدين زنكي ، ولد في شوال سنة 511 هـ ، قسمت دولة الأتابكة بعد وفاة أبيه بينه وبين أخيه ، فتولى حلب وأخوه سيف الدين الغازي الموصل ، وامتد نفوذ نور الدين إلى الموصل والجزيرة وسوريا ومصر وقونيا ، توفي سنة 569 هـ / 1174 م ودفن بالقلعة ، ثم نقل ودفن بمدرسته في سوق الخواصين بدمشق .
الصدقة على المحاويج ، فانشرح صدرُه وقال : عليَّ بهما فأتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليهما بقوله : أنجدني أنقذني من هذين ، فقال لهما : من أين أنتما ؟ فقالا : من بلاد المغرب ، جئنا حاجَّين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : اصْدُقاني ، فصمما على ذلك ، فقال : أين منزلهما ؟ فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة الشريفة فأمسكهما وحضر إلى منزلهما فرأى فيه مالا كثيرا وخَتْمَتَين وكتباً في الرقاق ولم ير فيه شيئا غير ذلك فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا : إنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت ولا يرُدَّان سائلا قط بحيث سدَّا خلَّة أهل المدينة في هذا العام المجدب ، فقال السلطان : سبحان الله ولم يظهر شيئا مما رآه ، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه فرفع حصيرا في البيت فرأى سردابا محفورا ينتهي إلى صَوْب الحجرة الشريفة فارتاعت الناس لذلك ، وقال السلطان عند ذلك : اصْدُقاني حالكما وضربهما ضربا شديدا ، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة وأمالوهما بأموال عظيمة وأمروهما بالتحيل في شئ عظيم خيَّلته لهم أنفسهم وتوهموا أن يمكنهم الله منه وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلوا به ما زيَّنه لهم إبليس في النقل وما يترتب عليه ، فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة ، وفعلا ما تقدم ، وصارا يحفران ليلا ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة ، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته ، ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور ، وأقاما على ذلك مدة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرْعَدَتِ السماء وأبرقت ، وحصل رجيف عظيم بحيث خيل انقلاع تلك الجبال ، فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة . واتفق إمساكهما واعترافهما ، فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه ، ورأى تأهيلَ الله له لذلك دون غيره بكى بكاء شديداً وأمر بضرب رقابهما ، فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة ، وهو مما يلي البقيع ثم عاد إلى مُلْكه وأمر بإضعاف النصارى ، وأمر أن لا يستعمل كافر على عمل من الأعمال ، وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعها ، انتهى .
وقد أشار إلى ذلك الجمال المطري باختصار ، ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسَبْك الرصاص به ، لكن بيَّن السنة التي وقع فيها ذلك مع مخالفة لبعض ما تقدم ، فقال في الكلام على سور المدينة المحيط بها اليوم : وصل السلطان نور الدين محمود بن زَنْكي بن اقسنقد في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها ذكرها بعض الناس وسمعتها من الفقيه علم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد عمن حدثه من أكابر من أدرك أن السلطان محمود المذكور رأى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول في كل واحدة : يا محمود أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين تجاهه ، فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك فقال له : هذا أمر حدث في مدينة النبي صلى الله عليه وسلم ليس له غيرك ، فتجهز وخرج على عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك ، حتى دخل المدينة على غفلة من أهلها والوزير معه وزار وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع فقال له الوزير : أتعرف الشخصين إذا رأيتهما ؟ قال : نعم ، فطلب الناس عامة للصدقة وفرق عليهم ذهباً كثيراً وفضة وقال : لا يبقيَنَّ أحدٌ بالمدينة إلا جاء ، فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حُجرة النبي صلى الله عليه وسلم من خارج لمسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة ، فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا : نحن على كفاية ما نقبل شيئا فجدَّ في طلبهما فجئ بهما فلما رآهما قال للوزير : هما هذان فسألهما عن حالهما وما جاء بهما ، فقالا : لمجاورة النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اصْدُقاني وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما فأقرَّا أنهما من النصارى وأنهما وصلا لكي ينقلا مَنْ في هذه الحجرة الشريفة باتفاق من مُلوكهم ووجدهما قد حفرا نقباً تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبلي ، وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت هما فيه ، هكذا حدثني عمن حدثه فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي صلى الله عليه وسلم خارج المسجد ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجها إلى الشام .
وقد ساق المجدُ هذه الواقعة على الوجه الذي ذكره المطري فقال : ومن الحوادث في المسجد الشريف ما نقله جماعة من مشايخ المدينة وعلمائها وذكر ما تقدم وكذلك الزين المراغي ذكر ما تقدم عن المطري نقلا عنه وزاد أن وزير السلطان نور الدين الذي استحضره وذكر له القصة هو الموفق خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر ، قال : وكان موفقا .
ومأخذه في ذلك – كما رأيته في حاشية بخطه على كتابه – أن الذهبي قال في ترجمة الموفق هذا : موفق الدين أبو البقاء صاحب الخط المنسوب وكان صدرا نبيلا ، وافر الحشمة ، وزر للسلطان نور الدين ، توفي بحلب سنة ثمان وثمانين وخمسمائة ، انتهى .
وقد خالف الزين في ذلك ما قدمناه عن شيخه الأسنوي من تسمية الوزير المذكور بجمال الدين الموصلي ، ولا يلزم من كون الموفق وزر للسلطان نور الدين أن يكون هو الوزير عند وقوع الرؤيا المذكورة ، لاحتمال أنه وزر له بعد ذلك أو قبله ، وجمال الدين الموصلي هذا هو الجواد الأصفهاني ، وقد تقدم ذكره في ترخيم الحجرة ، ووصفه بأنه وزير بني زنكي ، لأنه كان وزير والد نور الدين الشهيد الذي هو زنكي ثم وزر لولده غازي ، وأدرك دولة نور الدين الشهيد وزمان هذه الواقعة ، فالظاهر أنه وزر له وأنه المراد في هذه الواقعة .
وقال ابن الأثير : طالعت تواريخ الملوك المتقدمين قبل الإسلام وفيه إلى يومنا ، فلم أر بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز ملكا أحسن سيرة من الملك العادل نور الدين ، انتهى (1) .
بناء السور حول القبور الشريفة : ظهر من هذا السرد التاريخي أن المحاولتين الأولى والثانية لنقل جسد النبي صلى الله عليه وسلم كانتا ما بين سنة 386 – 411هـ في عهد الحاكم العبيدي الإسماعيلي الملقب بالحاكم بأمر الله وفي المرة الثالثة قام نصارى المغرب بهذه المحاولة سنة 557 هـ وفي كل مرة حفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم . ونظراً لما رأى السلطان نور الدين زنكي رحمه الله في المنام ما يتعلق بالمحاولة الثالثة أحب أن يحصن القبور الشريفة بسور رصاصي متين كيلا يتمكن أي زنديق للعودة إلى استخدام أسلوب السرداب السري في مثل هذه المحاولات . ووقد كان ذلك ، فمنذ أن بنى هذا السور لم يتجرأ أحد على تكرار هذه المحاولة سراً . وفيما يلي أهم ملامح بناء هذا السور .
(1) وفاء الوفا ( 2 / 648 – 652 ) .
أمر السلطان بحفر خندق عميق إلى الماء حول الحجرة الشريفة وصب فيها الرصاص بين أحجار عظيمة مربوطة بكتل من الحديد فأصبح الوضع بعد تمامه ثلاثة جدر ، جدار قائم على الماء مربوطة أحجاره بالحديد وأحجاره متداخلة في بعضها البعض وجدار آخر أمامه يشبهه تماما في الشكل والوضع والعمق وصب رصاص بين الجدارين على شكل قوالب الأحجار ، فشكل الرصاص بهذا الوصف جدارا ثالثا فصارت ثلاثة جدر محيطة بالحجرة الشريفة .
هذه خلاصة ما قاله الخيارى (1) . ، أما السمهودي وغيره من المؤرخين القدامى فلم يذكروا هذا التفصيل بل قالوا : أمر السلطان بإحضار رصاص عظيم وحفر خندقا عظيما إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذيب ذلك الرصاص وملأ به الخندق فصار حول الحجرة الشريفة سورا رصاصا إلى الماء حتى لا يتمكن أحد من العودة إلى مثل هذه المحاولة (2) .
وجدير بالذكر أن الدار التي جلس فيها السلطان نور الدين الزنكي لتوزيع المنح على أهل المدينة عرفت بدار الضيافة . وكانت موجودة شمالي المسجد خارج باب عمر بن الخطاب إلى أن هدمت في التوسعة السعودية الثانية وضمت إلى المسجد .
أما الموضع الذي كان يجمع فيه الرصاص ويذاب فكان على بعد خطوات من باب السلام وظل معروفا بسقيفة الرصاص إلى أن تهدم أثناء حريق القماشة في يوم الاثنين الموافق 18 / رجب 1397هـ . (3) .
المحاولة الرابعة :
ذكر ابن جبير تفصيل هذه المحاولة حيث وصل مدينة الإسكندرية بمصر أثناء رحلته يوم السبت / التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة سنة 578هـ (4) ورحل منها يوم الأحد / الثامن لذي الحجة من السنة
(1) تاريخ معالم المدينة المنورة ص 84 .
(2) وفاء الوفا ( 2 / 60 ) مرآة الحرمين ( 1 / 474 ) .
(3) انظر صورة هذه السقيفة في : المدينة المنورة وأول بلدية في بلاد الإسلام ص 88 لمحمد عبد الجليل النمر .
(4) رحلة ابن جبير ص 12 .
نفسها (1) ، وذكر في رحلته ما شاهد بالإسكندرية .
لما حللنا الإسكندرية في الشهر المؤرخ أولا عاينا مجتمعا من الناس عظيماً بروزاً لمعاينة أسرى من الروم أدخلوا البلد راكبين على الجمال ووجوههم إلى أذنابها وحولهم الطبول والأبواق . فسألنا عن قصتهم ، فأخبرنا بأمر تتفطر له الأكباد إشفاقا وجزعا . وذلك أن جملة من نصارى الشام اجتمعوا وأنشأوا مراكب في أقرب المواضع التي لهم من بحر القلزُم – البحر الأحمر – ثم حملوا أنقاضها على جمال العرب المجاورين لهم بكراء اتفقوا معهم عليه ، فلما حصلوا بساحل البحر سمروا مراكبهم وأكملوا انشاءها وتأليفها ودفعوها في البحر وركبوها قاطعين بالحجاج ، وانتهوا إلى بحر النعم فأحرقوا فيه نحو ستة عشر مركباً ، وانتهوا إلى عيذاب فأخذوا فيها مركباً كان يأتي بالحجاج من جدة وأخذوا أيضا في البر قافلة كبيرة تأتي من قوص إلى عيذاب وقتلوا الجميع ولم يحيوا أحداً وأخذوا مركبين كانا مقبلين بتجار من اليمن ، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ذلك الساحل كانت معدة لميرة مكة والمدينة أعزهما الله وأحدثوا حوادث شنيعة لم يسمع مثلها في الإسلام ولا انتهى رومي إلى ذلك الموضع قطّ .
ومن أعظمها حادثة تسد المسامع شناعة وبشاعة وذلك أنهم كانوا عازمين على دخول مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وإخراجه من الضريح المقدس . أشاعوا ذلك وأجروا ذكره على ألسنتهم . فأخذهم الله باجترائهم عليه وتعاطيهم ما تحول عناية القدر بينهم وبينه . ولم يكن بينهم وبين المدينة أكثر من مسيرة يوم . فدفع الله عاديتهم بمراكب عمرت من مصر والإسكندرية دخل فيها الحاجب المعروف بلؤلؤ مع أنجاد المغاربة البحريين . فلحقوا العدو وهو قد قارب النجاة بنفسه فأخذوا عن آخرهم . وكانت آية من آيات العنايات الجبارية ، وأدركوهم عن مدة طويلة كانت بينهم من الزمان نيف على شهلر ونصف أو حوله . وقتلوا وأسروا ، وفرق من الأسارى على البلاد ليقتلوا بها ووجه منهم إلى مكة والمدينة . وكفى الله بجميل صنعه الإسلام والمسلمين أمراً عظيماً ، والحمد لله رب العالمين . (2)
(1) رحلة ابن جبير ص 17 .
(2) رحلة ابن جبير ص 31 ، 32 .
المحاولة الخامسة :
” يا صواب (1) : يدق عليك الليلة أقوام المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم ولا تعترض عليهم ” (2) .
كلمات قالها أمير المدينة النبوية لشيخ خدام المسجد النبوي الشريف في شأن ناس من أهل حلب الذين جاءوا لإخراج جسد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما من الحجرة الشريفة ، وفيما يلي تفصيل ذلك :
لقد ذكر المحب الطبري في الرياض النضرة في فضائل العشرة قال : أخبرني هارون ابن الشيخ عمر بن الزغب – وهو ثقة صدوق مشهور بالخير والصلاح والعبادة – عن أبيه ، وكان من الرجال الكبار – قال : كنت مجاوراً بالمدينة المنورة وشيخ خدام النبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك شمسُ الدين صواب اللمطي وكان رجلا صالحاً كثير البر بالفقراء والشفقة عليهم وكان بيني وبينه أنس فقال لي يوماً : أخبرك بعجيبة كان لي صاحبٌ يجلس عند الأمير ويأتيني من خبره بما تمسُّ حاجتي إليه فبينما أنا ذات يوم إذ جاءني فقال : أمر عظيم حدث اليوم ، قلت : وما هو ؟ قال : جاء قوم من أهل حلب وبذلوا للأمير بذلا كثيرا وسألوه أن يمكنهم من فتح الحجرة وإخراج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما منها فأجابهم على ذلك قال صواب : فاهتممت لذلك هما عظيما ، فلم أنشب أن جاء رسول الأمير يدعوني إليه فأجبته فقال لي : يا صواب : يدق عليك الليلة أقوام المسجد فافتح لهم ومكنهم مما أرادوا ولا تعارضهم ولا تعترض عليهم قال : فقلت له : سمعا وطاعة ، قال : وخرجت ولم أزل يومي أجمع خلف الحجرة أبكي لا ترقأ لي دمعة ولا يشعر أحد ما بي حتى إذا كان الليل وصلينا العشاء الآخرة وخرج الناس من المسجد وغلقنا الأبواب فلم ننشب أن دق الباب الذي حذاء باب الأمير ، أي باب السلام ، فإن الأمير كان سكنه حينئذ بالحصن العتيق .
(1) هو صواب الشمس الملطي شيخ الخدام ، وذكر السخاوي حكايته والثناء عليه ضمن ترجمة هارون بن الزغب . انظر التحفة اللطيفة ( 2 / 247 ) ترجمة رقم 1829 . ( هكذا ذكره سخاوي ولعل الصواب اللمطي )
(2) وفاء الوفا ( 2 / 653 ) والوفا بما يجب لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ص 153 .
قال ففتحت الباب فدخل أربعون رجلا أعدُّهم واحداً بعد واحد ومعهم المساحي والمكاتل والشموع وآلات الهدم والحفر . قال : وقصدوا الحجرة الشريفة ، فوالله ما وصلوا المنبر حتى ابتلعتهم الأرض جميعهم بجميع ما كان معهم من الآلات ولم يبق لهم أثر ، قال : فاستبطأ الأمير خبرهم فدعاني وقال : يا صواب ألم يأتك القوم ؟ قلت : بلى ، ولكن اتفق لهم ما هو كيت وكيت ، قال : انظر ما تقول ، قلت : هو ذلك وقم فانظر هل ترى منهم باقية أو لهم أثراً ، فقال : هذا موضع هذا الحديث وإن ظهر منك كان يقطع رأسك ثم خرجت عنه قال المحب الطبري : فلما وعيت هذه الحكاية عن هارون حكيتها لجماعة من الأصحاب فيهم من أثق بحديثه فقال : وأنا كنت حاضرا في بعض الأيام عند الشيخ أبي عبدالله القرطبي بالمدينة والشيخ شمس الدين صواب يحكي له هذه الحكاية سمعتها بأذني من فيه ، انتهى ما ذكره الطبري .
قال السمهودي : وقد ذكر أبو محمد عبدالله بن أبي عبدالله بن أبي محمد المرجاني هذه الواقعة باختصار في تاريخ المدينة له ، وقال : سمعتها من والدي يعني الإمام الجليل أبا عبدالله المرجاني ، قال : وقال لي : سمعتها من والدي أبي محمد المرجاني سمعها من خادم الحجرة ، قال أبو عبدالله المرجاني : ثم سمعتها أنا من خادم الحجرة الشريفة وذكر نحو ما تقدم إلا أنه قال : فدخل خمسة عشر – أو قال عشرون – رجلا بالمساحي فما مشوا غير خطوة أو خطوتين وابتلعتهم الأرض ولم يسم الخادم ، والله أعلم (1) .
وتجدر الإشارة إلى أن هذه المحاولة كانت في منتصف القرن السابع الهجري ويدل على ذلك قوله بعد ذكره هذه القصة : وأما أهل بغداد فقد تقدم في الباب الاعتذار عنهم بأنهم كانوا مشغولين بما داهمهم من أمر التتار فلذلك لم يرد جوابهم عن هذا الأمر (2).
(1) وفا الوفا ( 2 / 653 ، 654 ) .
(2) الوفا لما يجب لحضرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ص 153 .
فعلم أن هذه المحاولة كانت عند انشغال العباسيين بأمر التتار ومعلوم أن ذلك كان في منتصف القرن السابع الهجري (1) .
وإنه لمن الغريب حقا أن يأتي ناس علنا بقصد إخراج أجساد الشيخين جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلاحظ أن هؤلاء الناس لم يستخدموا في هذه المحاولة أسلوب السرداب كما سبق ضمن بعض المحاولات لأن السور الرصاصي الموجود حول القبور الشريفة حال دونهم فلجأوا إلى مؤامرة علنية لدخول الحجرة الشريفة وحفر القبور المباركة بكل مكر ودهاء وبالتعاون مع أمير المدينة آنذاك وقد باءت هذه المحاولة بالفشل وحفظ الله جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبور الشريفة .
دروس وعبر : إن محاولة سرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما من أخطر حوادث التاريخ الإسلامي لأنها تهدف النيل من أفضل خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم وأفضل أصحابه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتدل نتائج هذه المحاولات على أن كيد الكافرين مهما بلغ من الدقة والإتقان والإخفاء والمؤامرة فإنه أوهن عندالله من بيت العنكبوت وإن مصيره الفشل والخسران والندم في داري الدنيا والآخرة .
وقد قال تعالى إشارة إلى محاولة كفار مكة لقتله صلى الله عليه وسلم : (( وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين )) (2) . وقال تعالى : (( والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين )) (3) .
لا شك أن قدرة الله فوق كل شئ وأن لله جنودا يستخدمهم كيف يشاء ففي المحاولة الأولى لسرقة الجسد الشريف قام أهل المدينة بردع من جاؤوا بهذا الغرض فلاذوا بالفرار ثم أرسل الله ريحا كادت الأرض تزلزل من قوتها .
وفي المحاولة الثانية رأى أهل المدينة أنوارا وسمعوا صائحا يقول : أيها الناس إن نبيكم ينبش ففتشوا الناسَ وقتلوهم .
(1) البداية والنهاية ( 13 / 213 ) .
(2) الأنفال ، آية رقم 30 .
(3) المائدة ، آية رقم 67 .
وفي المحاولة الثالثة قيض الله السلطان نور الدين الزنكي الذي قتل الرجلين اللذين أرادا نقل الجسد الشريف .
وفي المحاولة الرابعة تحرك أناس من مصر وأسروا نصارى الروم القادمين إلى المدينة المنورة بنية خبيثة .
وفي المرحلة الخامسة شاءت قدرة الله خسف كل من جاء لإخراج الشيخين رضي الله عنهما .
إن هذه الآيات الإلهية ظهرت عندما تجرأ البعض بمحاولات لسرقة جسد النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما . وقد قال عزوجل في كتابه : (( ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين )) (1) .
(1) سورة آل عمران ، آية رقم 54
المرجع من كتاب : تاريخ المسجد النبوي الشريف
للمؤلف : د / محمد بن إلياس عبد الغني
فضلا وليس أمرا قل ( اللهم أصلح حال أمة محمد ) صلى الله عليه وسلم