بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى : ( ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها )
سورة الشمس ” 7 – 9 ”
قال المؤلف : فأما مشهد الحيوانية وقضاء الشهوة : فمشهد الجهال ، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوان ، إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان . ليس همهم إلا مجرد نيل الشهوة بأي طريق أفضت إليها . فهؤلاء نفوسهم نفوس حيوانية ، لم تترق عنها إلى درجة الإنسانية ، فضلا عن درجة الملائكة . فهؤلاء حالهم أخس من أن تذكر ، وهم في أحوالهم متفاوتون بحسب تفاوت الحيوانات التي هم على أخلاقها وطباعها :
فمنهم : من نفسه كلبية . لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها ، وحماها من سائر الكلاب ، ونبح كل كلب يدنو منها فلا تقربها الكلاب إلا على من كره منه وغلبة ، ولا يسمح لكلب بشيء منها ، وهمه شبع بطنه من أي طعام أتفق : ميتة أو مذكى ، خبيث أو طيب ، ولا يستحيي من قبيح . إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث . إن أطعمته بصبص بذنبه ودار حولك وإن منعته هرّك ونبحك .
ومنهم : من نفسه حمارية . لم تخلق إلا للكد والعلف ، كلما زيد في علفه زيد في كده ، أبكم الحيوان ، وأقله بصيرة ، ولهذا مثل الله سبحانه وتعالى به من حمله كتابه فلم يحمله معرفة ولا فقها ولا عملاً . ومثل بالكلب عالم السوء الذي آتاه الله آياته فأنسلخ منها ، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه ، وفي هذين المثلين أسرار عظيمة ليس هذا موضع ذكرها .
ومنهم : من نفسه سبعية غضبية . همته العدوان على الناس ، وقهرهم بما وصلت إليه قدرته . طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه .
ومنهم : من نفسه فأرية . فاسق بطبعه ، مفسد لما جاوره ، تسبيحه بلسان الحال : سبحان من خلقه للفساد .
ومنهم : من نفسه على نفوس ذوات السموم والحُمات ، كالحية والعقرب وغيرهما . وهذا الضرب هو الذي يؤذي بعينه ، فيدخل الرجل القبر والجمل القدر ، والعين وحدها لم تفعل شيئاً وإنما النفس الخبيثة السمية تكيفت بكيفية غضبية ، مع شدة حسد وإعجاب وقابلت المعين على غرة منه وغفلة ، وهو أعزل من سلاحه ، فلدغته كالحية التي تنظر إلى موضع مكشوف من بدن إنسان فتنهشه ، فإما عطب وإما أذى . ولهذا لا يتوقف أذى العائن على الرؤية والمشاهدة ، بل إذا وصف له الشيء الغائب عنه وصل إليه أذاه ، والذنب لجهل المعين وغفلته وغرته عن حمل سلاحه كل وقت . فالعائن لا يؤثر في شاكي السلاح ، كالحية إذا قابلت درعاً سابغاً على جميع البدن ليس فيه موضع مكشوف ، فحق على من أراد حفظ نفسه وحمايتها أن لا يزال متذرعاً متحصناً لابساً أداة الحرب ، مواظباً على أوراد التعوذات ، والتحصينات النبوية التي في القرآن ، والتي في السنة .
وإذا عرف الرجل بالأذى بالعين : ساغ – بل وجب – حبسه وإفراده عن الناس ويُطعم ويسقى حتى يموت . ذكر ذلك غير واحد من الفقهاء ، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف . لأن هذا من نصيحة المسلمين ، ودفع الأذى عنهم . ولو قيل فيه غير ذلك لم يكن بعيداً من أصول الشرع .
ومن الناس : من طبعه طبع خنزير ، يمر بالطيبات فلا يلوي عليها ، فإذا قام الإنسان عن رجيعه قمّه ، وهكذا كثير من الناس ، يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولا ينقلها ولا تناسبه ، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء وجد بغيته وما يناسبها فجعلها فاكهته ونٌقلته .
ومنهم : من هو على طبيعة الطاوس ليس له إلا التطوس والتزين بالريش ، وليس وراء ذلك من شيء
ومنهم : من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان ، وأغلظه كيداً .
ومنهم : من هو على طبيعة الدب أبكم خبيث ، وعلى طبيعة القرد .
وأحمد طبائع الحيوانات : طبائع الخيل التي هي أشرف الحيوانات نفوساً ، وأكرمها طبعاً وكذلك الغنم . وكل من ألف ضرباً من ضروب هذه الحيوانات اكتسب من طبعه وخلقه ، فإن تغذى بلحمه كان الشبه أقوى ، فإن الغاذي شبيه بالمغتذي .
ولهذا حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير ، لما تورث آكلها من شبه نفوسها بها . والله أعلم .
والمقصود : أن أصحاب هذا المشهد ليس لهم شهود سوى ميل نفوسهم وشهواتهم لا يعرفون ما وراء ذلك ألبته .
لطفاً قل ( اللهم آتي نفوسها تقواها وزكها أنت خير من زكها أنت وليها ومولاها )
المرجع :
من كتاب مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين
للمؤلف :
للإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى .
الجزء الأول : فصل في مشاهد الخلق في المعصية .