قطوف من سيرة الإمام الشافعي رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام الشافعي ( 150 هـ – 204 هـ )

” إن المصباح ليس له أن يقول : إن الطريق مظلم ، لكنه يقول :

ها أنذا مضيئ ” – الرافعي –

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي بن عبد المطلب بن عبد مناف وينسب إلى شافع فيقال له : الشافعي كما ينسب إلى عبد المطلب فيقال : المطلبي كما ينسب إلى مكة لأنها موطن آبائه وأجداده فيقال له : المكي إلا أن النسبة الأولى قد غلبت عليه .

ولد سنة 150 هـ وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة وكانت ولادته بمدينة غزة بفلسطين حيث خرج والده إدريس من مكة إليها في حاجة له فمات بها وأمه حامل به فولدته فيها ثم عادت به بعد سنتين إلى مكة . حفظ القرآن بها في سن السابعة وحفظ موطأ مالك في سن العاشرة .

اختلط بقبائل هذيل الذين كانوا من أفصح العرب فاستفاد منهم وحفظ أشعارهم وضرب به المثل في الفصاحة . تلقى الشافعي فقه مالك على يد مالك . وتفقه بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد الزنجي ، المتوفى سنة 180 هـ ، وسفيان بن عيينة الهلالي المتوفى سنة 198 هـ وغيرهما من العلماء . ثم رحل إلى اليمن ليتولى منصباً جاءه به مصعب بن عبد الله القرشي قاضي اليمن . ثم رحل إلى العراق سنة 184 هـ واطلع على ما عند علماء العراق وأفادهم بما عليه علماء الحجاز وعرف محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتلقى منه فقه أبي حنيفة وناظره في مسائل كثيرة ورفعت هذه المناظرات إلى الخليفة هارون الرشيد فسُرَّ منه .

ثم رحل الشافعي بعدها إلى مصر والتقى بعلمائها وأعطاهم وأخذ منهم . ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195 هـ في خلافة الأمين . وقد أصبح الشافعي في هذه المدة إماماً له مذهبه المستقل ومنهجه الخاص به .

واستمر بالعراق مدة سنتين عاد بعدها إلى الحجاز بعدما ألّف كتابه الحجة الذي رواه عنه أربعة من تلاميذه في العراق وهو : أحمد بن حنبل وأبو ثور والزعفراني والكرابيسي ، ثم عاد مرة ثالثة إلى العراق سنة 198 هـ وأقام بها أشهراً ثم رحل إلى مصر سنة 199 هـ أو سنة 200 هـ على قول بعض المؤرخين ونزل ضيفاً عزيزاً على عبد الله ابن الحكم بمدينة الفسطاط وبعد أن خالط المصريين وعرف ما عندهم من تقاليد وأعراف وعادات تخالف ما عند أهل العراق والحجاز . فكَّر في إعادة النظر فيما أملاه البويطي والمزني والربيع المرادي بالعراق . وظل بمصر إلى أن توفي بها سنة 204 هـ وضريحه بها مشهور . وقد رتب الشافعي أصول مذهبه كالآتي :

كتاب الله أولاً وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثانياً ، ثم الإجماع والقياس والعرف والاستصحاب . وقد دون مذهبه بنفسه . فقد ألّف في مذهبه القديم كتاب الحجة وهذا الكتاب لم يصل إلينا بعينه حيث أعاد النظر فيه وجاء منه ببعض المسائل في مذهبه الجديد في كتاب الأم الذي أملاه على تلاميذه في مصر.  ولم يصل إلينا كتاب الأم إلا برواية الربيع المرادي . فهي المطبوعة الآن في سبعة أجزاء .

يعد الشافعي أول من ألّف في علم أصول الفقه ويتضح ذلك في كتابه المسمى الرسالة وقد كتبها في مكة وأرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي – حاكم العراق حينذاك – مع الحارث بن شريح الخوارزمي البغدادي الذي سمي بالنقال بسبب نقله هذه الرسالة . ولما رحل الشافعي إلى مصر أملاها مرة أخرى على الربيع بن سليمان المرادي . وما أملاه على الربيع يسمى  بالرسالة الجديدة وما أرسله إلى عبد الرحمن بن مهدي يسمى بالرسالة القديمة إذ إن عبد الرحمن بن مهدي أرسل للشافعي أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار والإجماع فكتب الشافعي وهو شاب كتاب ” الرسالة ” .

وقد ذهبت الرسالة القديمة وما بين أيدينا هو الرسالة الجديدة التي أملاها على الربيع وقد انتشر مذهب الشافعي في الحجاز والعراق ومصر والشام وفلسطين وعدن وحضرموت وهو المذهب الغالب في إندونيسيا وسريلانكا ولدى مسلمي الفلبين وجاوه والهند الصينية وأستراليا .

ثناء العلماء عليه :

اعتبره العلماء من المجددين كما ورد في الحديث : ” إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ” أخرجه أبو داود وصححه الحافظ وابن باز .

قال الإمام أحمد : فنظرنا فإذا رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي .

قال عبد الله ابن الإمام أحمد لأبيه : يا أبت أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك كثيراً تدعو له ؟ فقال له : يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس

قال الربيع : كان الشافعي يُفتي وله خمس عشرة سنة وكان يحيي الليل إلى أن مات .

وفي قدرته على المناظرة وقوة الحجة قال أحدهم : لو أن الشافعي ناظر هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب .

قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي وقال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟

قال الذهبي : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون .

وكان للشافعي عقل حكيم ولسان لا ينطق إلا بالمفيد ، وهذه بعض من أقواله وحكمه :

– طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .

– قال لبعض أصحاب الحديث : أنتم الصيادلة ونحن الأطباء .

– من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن تكلم في الفقه نما قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رق طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .

– المراء في الدين يُقسي القلب ويورث الضغائن .

– قال الربيع : لا تخوضن في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن خصمك غداً هو النبي صلى الله عليه وسلم .

– وددتُ أن الناس تعلموا هذا العلم مني على أن لا يُنسب إلي منه شيء .

– ما ناظرتُ أحداً إلا على النصيحة .

– كل ما قلته وهو خلاف الدليل فاضربوا بقولي عرض الحائط .

– العلم علمان : علم الدين وهو الفقه وعلم الدنيا وهو الطب وما سواه فعناء وعبث ، وقال عن علم الطب : ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى .

– تعبَّد من قبل أن ترأس فإنك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد .

– لا يبلغ أحد في هذا الشأن حتى يُضِّر به الفقر ويؤثره على كل شيء .

– رضى الناس غاية لا تدرك وليس إلى السلامة منهم سبيل فعليك بما ينفعك فالزمه .

– العلم ما نفع ليس العلم ما حفظ .

– لو أعلم أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته .

– العاقل من عقله عقله عن كل مذموم .

– سياسة الناس أشد من سياسة الدواب .

وفضلاً عن علمه وحكمته كان الشافعي شاعراً عظيماً حتى قيل له يوماً : أخذت الفقه والشعر فما أبقيت لنا ؟

ويدور معظم شعره حول الوعظ والحكمة ومن ذلك قصيدته الشهيرة :

دع الأيام تفعل ما تشاء * وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي * فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا * وشيمتك السماحة والوفاء
وإن كثرت عيوبك في البرايا * وسرك أن يكون لها غطاء
يغطى بالسماحة كل عيب * وكم عيب يغطيه السخاء
ولا حزن يدوم ولا سرور * ولا بؤس عليك ولا رخاء
ولا تُرِ للأعادي قط ذلا * فإن شماتة الأعدا بلاء
ولا ترج السماحة من بخيل * فما في النار للظمآن ماء
ورزقك ليس ينقصه التأنّي * وليس يزيد في الرزق العناء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع * فأنت ومالكُ الدنيا سواء
ومن نزلت بساحته المنايا * فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن * إذا نزل القضا ضاق الفضاء
دع الأيام تغدر كل حين * ولا يغني عن الموت الدواء

المرجع :

أيتام غيروا مجرى التاريخ  ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / العبيكان ” 65 – 71 ” ، فصل : الإمام الشافعي رحمه الله ، بتصرف.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *