ما ورد في فضل شهر الله المحرم
وعشره الأول
أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل )) . (1)
(1) أخرجه مسلم ( 1163 ) من حديث أبي هريرة .
خلاف حول أي الشهور أفضل :
وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل ؟ فقال الحسن وغيره : أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال : إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم وكان يسمى (( شهر الله الأصم )) من شدة تحريمه وقد روى عنه مرفوعا ومرسلا قال آدم بن أبي إياس : حدثنا أبو هلال الراسبي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل الأوسط وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم وهو شهر الله الأصم )) .
وأخرج النسائي من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الليل خير وأي الأشهر أفضل ؟ فقال : (( خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم )) وإطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة . وقال سعيد بن جبير وغيره (( أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة )) أو ذو الحجة بل قد قيل (( إنه أفضل الأشهر مطلقاً )) وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .
وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب وهو قول مردود وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول وقد زعم يمان بن رآب أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه ولكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
(1) أبو عثمان النهدي : هو عبد الرحمن بن ملَّ ممن أدرك الجاهلية لكنه أسلم ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم فهو في عداد التابعين .
وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصَّ مخلوقاته كما نسب محمدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته .
(1) عبد الله بن المبارك : إمام من أئمة المسلمين جمع بين العلم والزهد والجهاد في سبيل الله توفي بالعراق سنة 182 هـ ، والذي قاله يشير إلى أن الأعمال بخواتيمها كما صح به الحديث .
شــــــعر :
شهرُ الحرام مبارك ميمون
والصوم فيه مضاعفٌ مسنونُ
وثواب صائمه لوجه إلهــــه
في الخلد عنه مليكـه مخـزونُ
وممن سرد الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة وخلق كثير من السلف وممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر والحسن البصري وغيرهما ، قال بعضهم : إنما هو غذاء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين .
في التوراة : طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر ، طوبى لمن ظمأ نفسه ليوم الري الأكبر ، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غُيِّبَ لم يره ، طوبى لمن ترك طعاما ينفد في دار تنفد لدار (( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا )) .
حكمة إخفاء الصوم :
ولما كان الصيام سراً بين العبد وبين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد ، قال بعض الصالحين : بلغنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم .
وقال أبو التياح : أدركت أبي وشيخةَ الحي إذا صام أحدهم ادَّهن وليس صالح ثيابه .
صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد وكان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين ويخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق ويظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته قبل أن يجئ .
اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه ويمتصها والناس ينظرون إليه لا يدخل حلقه منه شيئ لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم .
كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عليهم ، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية .
الفصل الثاني
في فضل قيام الليل
وقد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة ، وهل هو أفضل من السنن الراتبة ؟ فيه خلاف سبق ذكره .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه (( فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية )) وأخرجه الطبراني عنه مرفوعا والمحفوظ وقفه .
وقال عمرو بن العاص : ركعة بالليل خير من عشر بالنهار ، أخرجه ابن أبي الدنيا ، وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الأسرار وأقرب إلى الإخلاص .
كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم .
قال الحسن : كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره .
كما قال تعالى : (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً )) ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا ، ولهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن الإثم كما يأتي في حديث أخرجه الترمذي .
وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلانا يصلي من الليل فإذا أصبح سرق ، فقال : سينهاه ما تقول .
فائدتان عظيمتان في قيام الليل :
فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه ( فائدتان عظيمتان ) .
1- الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به وقد قال الله عز وجل : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) .
2- وتكفير الذنوب والخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفرات الخطايا .
حديث المنام ودلالته على فضل قيام الليل :
وفي حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي (( أن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات والكفارات وفيه أن الدرجات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام )) .
أبيات من الشعر :
يـــا رجــــالَ الـليل جِـدُّوا رُبَّ داع لا يــــــُرَدُّ
مـــا يــقوم الـلـــــــــيل إلا من له عَـزْم وجِــــدُّ
ليــس شــئٌ كـصــــــــلاة الـلـــيل لِلقــبر يُعـــد
صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة ومنهم من صلى كذلك أربعين سنة ، قال بعضهم : منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر .
قال ثابت : كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى .
أفضل قيام الليل وسطه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )) .
يا نفس قومي فقد نام الـــورى
إن تصنعي الخير فذو العرش يرى
وأنت يا عين دعى عنك الكرى (3)
عند الصباح يحمد الــــــــقوم السرى
قيل لابن مسعود رضي الله عنه : ما نستطيع قيام الليل ، قال : أقعدتكم ذنوبكم ، وقيل للحسن : قد أعجزنا قيام الليل ، قال : قيدتكم خطاياكم ، وقال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك ، قال الحسن : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .
(2) المعرسون : يقال : عرس المسافر إذا نزل عن دابته في وجه السحر للراحة .
(3) الكرى : النوم .
(4) ثياب رثة : أي بالية متهالكة .
صلاتُك نورّ والعــبادُ رقــود
ونومك ضِدٌّ للصلاة عنيـــدُ
كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه وقال أحدهما للآخر : هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك .
وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال : ما لك قصرت في الخطبة ؟
أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة قام الخاطب إلى خطبته ؟ ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها : زوجيني نفسك ، قالت : اخطبني إلى ربي وامهرني ، قال : ما مهرك ؟ قالت : طول التهجد .
نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت : يا أبا سليمان تنام وأنا أرَبَّى لك في الخدور من خمسمائة عام ؟ .
يا راقـــد الـــليل كم ترقـــــد
قـــم يا حبيبي قــد دنا الــموعـــــدُ
وخــذ من الــليل وأوقــاتـــه
وِرْدا إذا مـــــا هَــجَـــــع الرقّـــــَد
من نام حتى ينقضــي ليلـــــهُ
لم يبلــــغ المـــــــنزل أو يجهـــــدُ
قل لأولـى الألــباب أهـل التقـى
قـــنطـــرة الـــعرض لكم موعــــدُ
في يوم عاشوراء :
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني رمضان .
يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وروى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم )) خرجه بقى بن مخلد في مسنده .
وقد كان أهل الكتاب يصومونه وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه ، قال دلهم ابن صالح : قلت لعكرمة : عاشوراء ما أمره ؟ قال : أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم فسألوا : ما توبتهم ؟ قيل : صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم .
فعل الرافضة فيه :
وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً ، فكيف بمن دونهم ؟ .
ومن فضائل يوم عاشوراء أنه يوم تاب الله فيه على قوم من فضائل يوم عاشوراء .
وقد سبق حديث على الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (( إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب الله على قوم ويتوب فيه على آخرين )) وقد صح من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال : سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء
فقال : (( المحرم شهر الله الأصم ، فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا صمته )) كذا رُوِيَ عن شعبة عن أبي إسحاق .
سيد الاستغفار :
وفي حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )) الاعتراف يمحو الاقتراف كما قيل :
فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه
كما أن إنكار الذنوب ذنوب
حسد إبليس آدم :
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شئ وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه وأقروا له بالفضل وأُسكن هو وزوجته الجنة ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى ، وما زالت الفضائل إذا ظهرت تُحسدَ .
شعـــــــر :
لا مات حسادك بل خُلِّــــدوا
حتى يروا منك الذي يُكْمِد
لا زالت محسوداً على نعمةٍ
فإنما الكامل من يُحْسَـــــــدُ
فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول ، إنما أهلك إبليس العُجْبُ بنفسه ولذلك قال (( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ )) وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه (( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا )) .
كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحتراق إبليس :
شعــــــر :
وإذا أراد الله نشـــر فضــيلـــة
طُويَت أتاح لها لسانَ حســــــود
لولا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيبُ عَرْفِ العود
قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة .
(1) سبانا : أسرنا .
(2) الحديث في الصحيحين وفي غيرهما ، وانظر صحيح مسلم ( 2652 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 2664 ) وتمامه : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كلًّ خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل : لو أن فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) .
من فضلك قل ( اللهم أنر على أهل القبور قبورهم )
المرجع :
لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 45 – 86 ” ، فصل : شهر الله المحرم ، بتصرف.