بسم الله الرحمن الرحيم
ما ورد في فضل شهر صفر
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا عدوى ولا هامة ولا صفر ، فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجْرَبُ فَيُجربها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول )) (1) أما العدوى فمعناها أن المرض يتعدى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحاء فيمرض بذلك ، وكانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب ، ولذلك سأل الأعرابي عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فمن أعدى الأول ؟ )) ومراده أن الأول لم يجرب بالعدوى بل بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده .
(1) أخرجه البخارى في صحيحه ( 5757 ، 5770 ) ومسلم أيضاً ( 2220 ) من حديث أبي هريرة .
(2) النقبة : أول ما يظهر من الجرب .
(4) هو مرسل أصح منه متصلاً والمرسل من أنواع الضعيف انظر المسند ( ح2ص356 ) .
(5) موت الفوات : المراد به موت الفجأة
من كرامات الأولياء :
ونظير ذلك ما روى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه من أكل السم ومنه مشى سعد بن أبي وقاص ، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر (2) .
ومنه أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن بردها فدخل إليها في النار التي خرجت منه .
فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوى إيمانهم بالله وقضائه وقدره وتوكلهم عليه وثقتهم به ونظير ذلك دخول المفاوز بغير زاد لمن قوى يقينه وتوكله خاصة ، وقد نص عليه أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وكذلك ترك التكسب والتطيب ، كل ذلك يجوز عند أحمد لمن قوى توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع وتدفع بها المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك لأعطاك كل ما تريد .
وبذلك فسر الإمام أحمد التوكل ، فقال : هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين : قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقى في النار ، فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، فلا يُشْرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن تعوض عنها بالسبب الباطن ، وهو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله وأنفع منها ، فالتوكل علم وعمل والعلم معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع والضر وعامة المؤمنين تعلم ذلك والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين .
(2) هذا مروى في كتب التواريخ لكن الله تعالى أعلم بصحة وقوعه كما روى ، ولا حرج على فضل الله تعالى ، ولكن العمل بالأسباب الصحيحة هو الحق فإن اضطر الإنسان إلى خلافه توكل على الله واستيقن .
والأسباب نوعان :
أحدهما : أسباب الخير ، فالمشروع أنه يفرح بها ويستبشر ولا يسكن إليها بل إلى خالقها ومسببها وذلك هو تحقيق التوكل على الله والإيمان به ، كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة (( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ )) ومن هذا الباب الاستبشار بالفأل وهو الكلمة والصالحة يسمعها طالب الحاجة وأكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب وينسى المسبب لها وقلَّ من فعل ذلك إلا وكل إليها وخُذِل فإن جميع النعم من الله وفضله كما قال تعالى : (( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ )) (( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )) .
(4) إثر سماء : أي عقب نزول مطر .
والنوع الثاني : أسباب الشر ، فلا تضاف إلا الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب الذنوب كما قال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ )) وقال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )) فلا تضاف إلى شئ من الأسباب سوى الذنوب كالعدوى أو غيرها .
والمشروع اجتناب ما ظهر منها واتقاؤه بقدر ما وردت به الشريعة مثل اتقاء المجذوم والمريض والقدوم على مكان الطاعون وأما ما خفى منها فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه فإن ذلك من الطِّيرة المنهى عنها .
لم نهى عن الطيرة ؟ :
والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر وقد حكاها الله في كتابه عن قوم فرعون وقوم صالح وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا طيرة )) وفي حديث (( من ردته الطيرة فقد قارف الشرك )) (3) .
وفي حديث ابن مسعود المرفوع : (( الطيرة من الشرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل )) .
(3) حديث في إسناده ضعف أخرجه أحمد في مسنده ( ح2ص . 22 ) فيه ابن لهيعة اختلط بعد احتراق كتبه ولكن للحديث شواهد .
وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن عامر القرشي قال ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك )) .
(3) المنعة : القوة ، والمطار : حديد الفؤاد القوي .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (( ولا صفر )) فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر داء في البطن : يقال : إنه دود فيه كبار كالحيات وكانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وممن قال هذا من العلماء ابن عيينة والإمام أحمد وغيرهما ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله لا عدوى وقد يقال : هو من باب عطف الخاص على العام وخصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى .
وقالت طائفة : بل المراد صفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :
أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسئ فكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك .
والثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشئون بصفر ويقولون : إنه شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا حكاه أبو داود ، عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك ولعل هذا القول أشبه الأقوال .
وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهى عن السفر فيه ، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهى عنها وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء وقد روى أنه يوم نحس مستمر في حديث لا يصح بل في المسند عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخّيتُ ذلك الوقت فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة ، أو كما قال : وكذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة وقد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشاءم بذلك أهل الجاهلية .
وقد ورد الشرع بإبطاله قالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟ وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة في شوال أيضا .
هجران أماكن المعاصي :
هجران أماكن المعاصي وأخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم وليدع مخالطة من كان يخالطه وإلا لم ينل ما يريد .
فائدة مجالس الذكر :
يا من ضاع قلبه انشده في مجالس الذكر عسى أن تجده ، يا من مرض قلبه احمله إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجلس الذكر مارستان الذنوب ، تداوى فيها أمراض القلوب كما تداوى أمراض الأبدان .
وغير تقى يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو سقيم
يا أيها الرجل المقوم غيره هلا لنفسك كان ذا التقويـــــــــمُ
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيــــــــم
فهناك يقبلُ ما تقول ويَقتدى بالقول منك وينفع التعليــــــــــمـ
لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله عار عليك إذا فعلت عظيــــــــمـ
لطفاً قل ( اللهم صلي وسلم على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم )
المرجع :
لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” 97 – 111 ” ، فصل : وظيفة شهر صفر ، بتصرف.