بسم الله الرحمن الرحيم
ما ورد في فضل شهر ربيع الأول
ويشتمل على مجالس :
المجلس الأول :
في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
قدم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم :
خرَّج الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يَرين )) (1) وخرجه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .
(1) أخرجه أحمد ( ج4 ص 127 ) والحاكم في المستدرك ( ج2 ص 418 ) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 8 / 223 ) : رواه أحمد بأسانيد وأحد رجالها رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان .
لولا محمد ما خلقتك يا آدم :
وقد رُوى أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا على العرش وأن الله عز وجل قال لآدم : لولا محمد ما خلقتك وقد خرجه الحاكم في صحيحه (6) .
(6) حديث موضوع أخرجه الحاكم في المستدرك ( ج2 ص615 ) وقال : (( صحيح الإسناد ، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن )) يريد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال الحافظ الذهبي : بل هو موضوع وعبد الرحمن رواه ، ورواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا ! ! وانظر جامع الأحاديث القدسية للصبابطي ( 951 ) .
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ويعجبون منها ويقولون : لولا موضع اللبنة ، زاد مسلم قال : فجئت فختمت الأنبياء )) .
(3) متفق على صحته أخرجه البخاري في المناقب من صحيحه ( 3534 ) ومسلم في الفضائل ( 2287 ) .
وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن لكل نبي وليا من المؤمنين وأنا ولي إبراهيم )) .
وكان صلى الله عليه وسلم أشبه ولد إبراهيم به صورة ومعنًى حتى إنه أشبه في خلة الله تعالى ، فقال (( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا )) (5) .
(5) حديث موضوع من رواية الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وتتمته عنده : (( وإن خليلي أبو بكر )) وهو حديث موضوع أيضًا من رواية ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بهذا اللفظ أيضا وزاد : (( فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة يوم القيامة تجاهين ، والعباس بيننا ، مؤمن بين خليلين )) .
من أفضال الشام :
وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته بأنها دارُ ملكه كما ذكر كعب : إن في الكتب السابقة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مولده بمكة ومهاجره يثرب وملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الشام ينتهي ملكه ولهذا أسرى به صلى الله عليه وسلم إلى الشام بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبله إلى الشام .
قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه منها هاجر إليها ، وفي آخر الزمان يستقر العلم والإيمان بالشام فيكون نور النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام .
وفي المسند والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم )) يعني الشام (2) .
وبالشام ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان وهو المبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحكم به ولا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويصلي خلف إمام المسلمين ويقول : إن هذه الأمة أئمة بعضهم لبعض إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له .
والشام هي في آخر الزمان أرض المحشر والمنشر (3) فيحشر الناس إليها قبل القيامة من أقطار الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم وهي أرض الشام طوعا كما تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم .
(1) أخرجه أحمد في مسنده ( ج4 ص198 ، 199 ) والحاكم في المستدرك ( ج4 ص509 ) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .
(2) أخرجه أحمد ( ج2 ص199 ) والحاكم ( ج4 ص510 ) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وأبو داود في سننه في كتاب الجهاد .
(3) حديث صحيح أخرجه ابن ماجه في سننه ( 1407 ) عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال : (( أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره )) وللحديث تتمة ، وقال في الزوائد : (( روى أبو داود بعضه وإسناد ابن ماجه صحيح ورجاله ثقات )) والحديث أخرجه أحمد أيضا ( ج6 ص463 ) .
هذا الدعاء ليس في المرجع : فضلا قل ( اللهم فرج عن أهل الشام ما هم فيه )
المجلس الثاني :
في ذكر المولد أيضا :
خرَّج مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال : (( ذلك يوم ولدت فيه وأنزلت على فيه النبوة )) .
وحديث أبي قتادة يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارا في يوم الإثنين ، وقد رُوى أنه ولد عند طلوع الفجر منه ، وروى أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه وخرَّجه من طريقه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه ضعف ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان بمر الظهران راهب يدعى عيصا من أهل الشام وكان يقول : يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم ، هذا زمانه ، فكان لا يولد بمكة مولود إلا سأل عنه فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا ، فناداه فأشرف عليه فقال له عيص : كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين ويبعث يوم الإثنين ويموت يوم الإثنين ، قال : إنه ولد لي مع الصبح مولود قال : فما سميته؟ قال : محمد ، قال : والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه فقد أتى عليهن منها أنه طلع نجمه البارحة وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد ، انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه (2) .
(2) هذا خبر منكر وإسناده ضعيف ، والعجب من ابن رجب أن يسوق مثل هذه الأخبار على مخالفتها لما هو أصح منها وأشهر ؛؛.
خاتم النبوة :
وفي صحيح الحاكم عن عائشة قالت : كان بمكة يهودي يتجر فيها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا نعلمه ، فقال : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا : أخرجي إلينا ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيّا عليه ، فلما أفاق قالوا : ويلك مالك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل (1) .
آيات عند ولادته صلى الله عليه وسلم :
وقد روى في صفة ولادته آيات تستغرب فمنها : ما روى عن آمنة بنت وهب أنها قالت : وضعته فما وقع كما يقع الصبيان ، وقع واضعا يده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، وروى أيضا أنه قبض قبضة من التراب بيده لما وقع بالأرض ، فقال بعض القافة : إن صدق الفال ليغلبن أهل الأرض ، وروى أنه وضع تحت جفنة فانفلقت عنه ووجدوه ينظر إلى السماء واختلفت الروايات : هل ولد مختونا ؟ فروى أنه ولد مختونا مسروراً يعني مقطوع السرة ، حتى قال الحاكم : تواترت الروايات بذلك .
(1) هذا حديث لا يصح أخرجه الحاكم في المستدرك ( ج2 ص602 ) وصحح إسناده وتعقبه الذهبي منكرا فقال : لا .
الاختلاف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم :
وأما شهر ولادته فقد اختلف فيه فقيل : في شهر رمضان روى عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصح ، قيل : في رجب ولا يصح ، وقيل : في ربيع الأول وهو المشهور بين الناس حتى نقل ابن الجوزي وغيره عليه الاتفاق ولكنه قول جمهور العلماء .
ثم اختلفوا في أي يوم كان من الشهر فمنهم من قال : هو غير معين وإنما ولد في يوم الإثنين من ربيع من غير تعيين لعدد ذلك اليوم من الشهر ، والجمهور على أنه معين .
ثم اختلفوا فقيل : لليلتين خلتا منه وقيل : لثمان خلت منه وقيل : لعشر وقيل : لاثنتي عشرة ، وقيل لسبع عشرة ، وقيل : لثماني عشرة ، وقيل : لثمان بقين منه ، وقيل : إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية ، والمشهور الذي عليه الجمهور أنه ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول وهو قول ابن إسحاق وغيره .
وأما عام ولادته فالأكثرون على أنه عام الفيل ، ومن قال ذلك قيس بن مخرمة وقباث ابن أشيم وابن عباس ، وروى عنه أنه ولد يوم الفيل ، وقيل : إن هذه الرواية وهم ، إنما الصحيح عنه أنه قال : عام الفيل ، ومن العلماء من حكى الاتفاق على ذلك ، وقال : كل قول يخالفه وهم .
والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل بخمسين يوما ، وقيل : بعده بخمس وخمسين يوما ، وقيل : بشهر ، وقيل : بأربعين يوما ، وقد قيل : إنه ولد بعد الفيل بعشر سنين وقيل : بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بأربعين سنة ، وقيل : قبل الفيل بخمس عشرة سنة ، وهذه الأقوال وهم عند جمهور العلماء ومنه ما لا يصح عمن حكى عنه .
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : (( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله ، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : انظروا هذين حتى يصلحا ))
ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا (( ترفع الأعمال يوم الاثنين والخميس فيغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد كما هم )) .
كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه ، ويقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل ، يا من يبهرج بعمله على من تبهرج ؟ والناقد بصير ، يا من يُسَوف بتطويل أمله كم تُسوف والعمر قصير ؟
شعر :
صُروف الحَتْفِ مُترِعَةُ الكئوس تدور على الرعايا والرءوس
فلا تتبع هواك فكلُّ شخــــــــصٍ يصير إلى بلًى وإلى دُرُوســـ
وخَفْ من هول يوم قمطريــــــرٍ مخوفٍ شرُّه ضنكٌ عبوســـــ
فما لك غير تقــــــــــوى الله زاد وفعلك حيت تقبر من أنيســــ
فحسِّنه ليعرض مستقيمــــــــــــا ففي الاثنين يُعرَض والخميسـ
المجلس الثالث :
في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم :
في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال : (( إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده فاختار ما عنده )) فبكى أبو بكر ، وقال : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، قال : فعجبنا ، وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله وهو يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ؟ قال : فكان رسول الله هو المُخيَّر ، وكان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه )) .
حكمة المرض :
مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعا فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه حتى صارا كالشئ الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم ، ولم يذق ابن آدم في حياته ألما مثله ، وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل : (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )) قال الربيع بن خثيم : أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله .
وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا ، قال الله تعالى : (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ )) .
ألا للموت كأسٌ أيُّ كـــأس
وأنت لكأسه لا بد حاســي
إلى كم والممات إلى قريب
تُذكر بالممات وأنت ناسي ؟
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت فقال : (( أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت )) .
وفي حديث مرسل : (( أنه صلى الله عليه وسلم مر بمجلس قد استعلاه الضحك فقال : (( شوبوا مجلسهم بذكر مكدر اللذات الموت )) .
فوائد ذكر الموت :
وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد : منها أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله ويقصر الأمل ويرضى بالقليل من الرزق ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويهون مصائب الدنيا ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا ، وفي حديث أبي ذر المرفوع الذي خَرَّجَه ابن حبان في صحيحه وغيره أن صحف موسى كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ؟ عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ؟
عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ؟ عجبت لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ .
يا غافلَ القلب عن ذكر المنِيات عَمّا قليل سَتُلْقَى بين أموات
فاذكر محلك من قبل الحلول به وَتب إلى الله من لهو ولذات
إن الحِمَامَ له وقتٌ إلى أجـــــل فاذكر مصائب أيام وساعات
لا تطمئن إلى الدنيا وزينتــــها قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي
قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل .
* نُحْ على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح *
* لتموتــــن ولو عُمِّرتَ ما عُمِّرَ نـــــوح *
لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يُخَيَّر ولذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن ، كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله عز وجل وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه )) كما رواه البخاري .
أول ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ )) وقيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يموت ؟ قال : نعم ، قيل : ومن أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته في هذه السورة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ )) يعني فتح مكة (( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا )) وذلك علامة موته وقد كان نعى نفسه إلى فاطمة صلى الله عليه وسلم فإن المراد من هذه السورة إنك يا محمد إذا فتح الله عليك ودخل الناس في دينك الذي دعوته إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا .
قال وهب بن الورد : إن لله ملكا ينادي في السماء كل يوم وليلة : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده ، أبناء الستين هلموا إلى الحساب ، أبناء السبعين ماذا قدمتم ؟ وماذا أخرتم ؟ أبناء الثمانين لا عذر لكم .
وعن وهب قال : ينادى مناد : أبناء الستين عدو أنفسكم في الموتى ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره )) (1) .
وفي حديث آخر (( إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين )) ؟ .
قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال ستون سنة ، قال له : أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك ، يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال فضيل : من علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف وأنه مسئول ، فليعد للمسألة جوابا، فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحْسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي .
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب (5) ، وأحمد في مسنده (ج3 ص275 ) .
وما زال صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ باقتراب أجله في آخر عمره ، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس : (( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) وطفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى خُمّا في طريقه بين مكة والمدينة فخطبهم وقال : (( أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب )) ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خُير بين لقاء الله وبين زهرة الدنيا والبقاء فيها ما شاء الله ، فاختار لقاء الله وخطب الناس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح .
ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم :
وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر ، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور وقيل : أربعة عشر يوما وقيل اثنا عشر يوما وقيل عشرة أيام وهو غريب ؛ وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرضه ، ففي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس ، فقام على المنبر فقال : (( إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة )) قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر ، فقال : بأبي وأمي ، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رئى عليه حتى الساعة .
تخليف أبي بكر الصديق رضى الله عنه :
ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يبقين خوخة في المسجد إلا سُدَّتْ إلا خوخة أبي بكر )) وفي رواية : (( سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر )) وفي هذا الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده .
أول ما ابتدئ به صلى الله عليه وسلم من الوجع :
وكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع رأسه ، ولهذا خطب وقد عصب رأسه بعصابة دسماء وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيرا في حياته ويتألم منه أياما ، وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان وأهل الجنة ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف أهل النار فقال : (( هم الذين لا يألمون رءوسهم )) .
ودخل عليه أعرابي فقال له : يا أعرابي هل أخذك هذا الصداع ؟ فقال : (( وما الصداع )) ؟ قال : (( عروق تضرب على الإنسان في رأسه )) فقال : ما وجدت هذا ، فلما ولَّى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا )) خرجه الإمام أحمد والنسائي .
وقال كعب : أجد في التوراة : لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا .
شدة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس والظاهر أنه كان مع حمَّى ، فإن الحمى اشتدت به في مرضه ، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ، يتبرد بذلك وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ، فقال : (( إنا كذلك يُشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر )) وقال : (( إني أوعك كما يوعك رجلان منكم )) .
زهده وورعه :
وكان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه وقال (( ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه ثم تصدق بها كلها )) .
فكيف يكون حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة ؟ وما ظنه بربه ؟ .
قال جعفر بن محمد عن أبيه : لما بقى من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله قد أرسلني إليك إكراماً وتفضيلا لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك ، يقول لك كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما ، وأجدني يا جبريل مكروبا ، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك ، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك ، قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله ، يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر ، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها وإن أمرتني أن أتركها تركتها ، قال : وتفعل ذلك يا ملك الموت ؟
قال : بذلك أُمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به ، فقال جبريل : يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك ، قال : فامض يا ملك الموت لما أُمرت به ، فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله ، هذا آخر موطئي من الأرض ، إنما كنت حاجتي من الدنيا .
تاريخ الوفاة :
وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر ، فَهمَّ المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه ، كأنه ورقة مصحف وظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر .
وتوفى صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الاثنين مفيقاً ، فخرج أبو بكر إلى منزله بالسُّنْح خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقيل : توفى حين زاغت الشمس والأول أصح ، وأنه توفى حين اشتد الضحا من يوم الاثنين ، في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة ، حين هاجر إليها .
واختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله ، وقيل : ثانيه ، وقيل : ثاني عشرة وقيل ثالث عشرة وقيل خامس عشرة ، والمشهور بين الناس أنه كان ثاني عشر ربيع الأول .
فجيعة المسلمين ودهشتهم :
ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخولط ، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ، ومنهم من أنكر موته بالكلية ، وقال : إنما بُعث إليه كما بُعث إلى موسى ، وكان من هؤلاء عمر وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى ، فكشف عن وجهه الثوب وأكبَّ عليه وقَبَّل جبهته مراراً وهو يبكي ، وهو يقول : وا نبياه وا خليلاه وا صفياه ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد مُتَّها .
ثم دخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم يجتمعون عليه فتكلم أبو بكر وتشهد وحمدالله فأقبل الناس إليه وتركوا عمر ، فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وتلا : (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) الآية ، فاستيقن الناس كلهم بموته وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها .
وقالت فاطمة عليها السلام :
* يا أبتاه أجاب ربّا دعــــــاه *
* يا أبتاه جنة الفردوس مأواه *
* يا أبتاه إلى جبريل أنعـــــاه *
* يا أبتاه مِنْ ربه ما أدنــــــاه *
وعاشت بعده ستة أشهر فما ضحكت في تلك المدة وحُقَّ لها ذلك .
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه
وإن كان من ليلى على الهجر طاويا
كل المصائب تهون عند هذه المصيبة :
في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه : (( يا أيها الناس إنْ أحدٌ من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّبمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري ، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي )) .
قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول : يا عبد الله ، اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .
شعــــــــــــر :
اصبر لكل مصيبة وتَجَلــــــــد واعلم بأن المرء غَيْرُ مخلـــــد
واصبر كما صَبَر الكرامُ فإنها نُوب تنوب اليومَ تُكْشَفُ في غد
وإذا أتتك مصيبة تُشْجى بهــــا فاذكر مصابك بالنبي محمــــــد
وروى أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل دفنه ، فإذا قال أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب ، فلما دفن ترك بلال الأذان مَا أمرَّ عيشَ من فارق الأحباب ، خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب .
شعـــــــــــــر :
لو ذاق طعم الفراق رضوى
لكاد من وجده يميـــــد
قد حَملوني عذابَ شــــــــوق
يعجز عن حمله الحديد
لما دفن الرسول صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . انتهى
ملاحظة :
المؤلف ابن رجب الحنبلي رحمه الله رحمة واسعة لم يورد فضلاً للشهور التالية : شهر ربيع الثاني ، شهر جمادي الأولى ، شهر جمادي الثاني بل انتقل إلى فضل شهر رجب فإن كان في العمر بقية نلتقي بإذن الله فيما ورد في فضل شهر رجب وإن وافتنا المنية فلا تنسونا من صالح دعائكم . الفقير إلى عفو ربه أبو عبد الملك الدعيس
لطفاً قل ( اللهم فرج عن أهل الشام ما هم فيه )
المرجع :
لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 113 – 156 ” ، فصل : شهر ربيع الأول ، بتصرف.