ما ورد في فضل شهر رمضان

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ورد في فضل شهر رمضان المعظم

وفيه مجالس :

المجلس الأول :

في فضل الصيام :

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) (1) وفي رواية (( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي )) وفي رواية للبخاري (( لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا أجزي به )) وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه (( كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به )) (2) .

ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال (( الصوم نصف الصبر )) (4) خرجه الترمذي .

(1)               حديث صحيح من رواية الشيخين في كتابي الصوم من صحيحيهما .

(2)               أخرجه الترمذي في سننه (3519) عن جرى النهدي عن رجل من بني سليم قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدى : (( التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملأه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان )) وحسنه .

أنواع الصبر :

ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله وصبر على محارم الله وصبر على أقدار الله المؤلمة .

وتجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )) (1) .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عمرة في رمضان تعدل بحجة )) (3) أو قال : (( حجة معي )) .

(1)               حديث صحيح مروى في الصحيحين .

معنى قوله : الصوم لي :

وأما قوله : (( فإنه لي )) فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم وذكروا فيه وجوهاً كثيرة ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان :

أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها

الأصلية التي جُبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلى فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلى فقد الطعام والشراب في صلاته بل قد نهى أن يصلي ونفسه تتوق إلى الطعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة .

الوجه الثاني : أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يُستخفى بتناولها في العادة ولذلك قيل : لا تكتبه الحفظة وقيل : إنه ليس فيه رياء كذا قاله الإمام أحمد وغيره وفيه حديث مرفوع مرسل وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره وقد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره أو نهاه دل على صحة إيمانه والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرّا بينهم وبينه وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يرد لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة وقال بعضهم لما اطلع على بعض سرائره : إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات .

فوائد التقرب إلى الله بترك الشهوات :

وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد :

منها : كسر النفس فإن الشبع والرى ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة .

ومنها : تخلى القلب للفكر والذكر فإن تناول هذه الشهوات قد تقسى القلب وتعميه وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر وتستدعى الغفلة وخلو البطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر وللفكر .

ومنها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح فإن بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك .

ومنها : أن الصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم وجاء لقطعه عن شهوة النكاح .

تفسير فرحة الصائم :

وقوله صلى الله عليه وسلم (( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه )) أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحبُّ عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين .

الصائمون على طبقتين :

الصائمون على طبقتين : إحداهما : من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع اجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : (( إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا منه )) (6) خرجه الإمام أحمد .

(6) أخرجه أحمد ( 5 / 79 ) .

الطبقة الثانية من الصائمين :

من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى ويحفظ البطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .

معنى قوله لخلوف فم الصائم أطيب :

وقوله (( ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) خلوف الفم رائحة ما يتصاعد منه من الابخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام وهي رائحة مستكرهة في مشَام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته .

خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك .

عرى المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل .

نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح .

انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر .

ذل الخائفين من سطوته هو العز .

بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة .

جوع الصائمين لأجله هو الشبع .

عطشهم في طلب مراضاته هو الرى .

لما سُلْسل الشيطان في شهر رمضان وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل فلم يبقل للعاصي عذر .

يا شموس التقوى والإيمان اطلعي .

يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي .

يا قلوب الصائمين اخشعي .

يا إقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي ، يا عيون المجتهدين لا تهجعي ، يا ذنوب التائبين لا ترجعي ، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي ، يا بروق العشاق للعشاق المعي ، يا خواطر العارفين ارتعي ، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي ، يا جنيد اطرب ، يا شبلى احضر ، يا رابعة اسمعي ، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعى (( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ )) (1) ويا همم المؤمنين أسرعي فطوبى لمن أجاب فأصاب وويل لمن طرد عن الباب وما دعى .

 

ليت شعري إن جئتهم يقبلوني

أن تراهم عن بابهم يصرفوني ؟

أم تراني إذا وقفت لديهم

يأذنوا بالدخول أم يطردونـــي ؟

المجلس الثاني :

في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن

كثرة جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان :

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة )) (1) وخرجه الإمام أحمد بزيادة في آخره وهي : لا يسأل عن شئ إلا أعطاه .

الجود هو سعة العطاء وكثرته والله تعالى يوصف بالجود وفي الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله جواد يحب الجود كريم يحب الكرم )) (2) .

(1)     حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه ( 2 . 19 ) ومسلم في صحيحه ( 8 . 23 ) وكلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .

(2)     حديث إسناده ضعيف أخرجه الترمذي ( 2799 ) من طريق خالد بن إلياس عن صالح بن أبي حسان عن سعيد بن المسيب يقول : (( إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود . . . )) فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار فقال : حدثنيه عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث غريب وخالد بن إلياس يُضَعَّف .

قلت : خالد بن إلياس متروك الحديث .

وفي الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : إن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان وفيه أنزل قوله : (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )) وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره أنه ينادي فيه مناد : (( يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر )) .

وفي الصحيحين عن أنس : قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس )) (1) .

(1)                حديث صحيح عزاه الألباني في صحيح الجامع الصغير ( 4510 ) للشيخين في صحيحيهما وللترمذي وابن ماجه في سننيهما من حديث أنس رضي الله عنه وانظر صحيح البخاري ( 2820 ) .

وخرج البخاري من حديث سهل بن سعد : أن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم فلبسها وهو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس وقالوا : كان محتاجا إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه .

كان خلقه القرآن :

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب له خلقاً بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده وفرقها كلها على الناس ،  فأنشد :

لمست بكفي كفه أبتغي الغنى

ولم أدر أن الجود من كفه يعدى

فوائد جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان :

وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة :

منها : شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه وفي الترمذي عن أنس مرفوعا : (( أفضل الصدقة صدقة في رمضان )) .

ومنها : إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله فقد غزا .

ومنها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار ولا سيما في ليلة القدر والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه وسلم (( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )) .

ومنها : أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها وخصوصا إن ضمَّ إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الصيام جُنة )) وفي رواية (( جُنَّة أحدكم من النار كجنته من القتال )) .

ومنها : أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه .

استحباب مدارسة القرآن في رمضان :

ودل الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له .

وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان وفي حديث فاطمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها : أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة وأنه عارضه في عام وفاته مرتين .

نزول الكتب السماوية في رمضان :

وفي المسند عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضيت من رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان )) .

جهادان في رمضان :

واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه . جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وُفى أجره بغير حساب قال كعب : ينادى يوم القيامة مناد إن كل حارث يُعطى بحرثه ويُزاد غير أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل كما في المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الصيام والقيام يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أى رب منعته الطعام والشراب بالنهار ، يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان )) فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والنظر المحرم والسماع المحرم والكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ويقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته فأما من ضيَّع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يُضرَبَ به وجهُ صاحبه ويقول له : ضيعك الله كما ضيعتني ، كما ورد مثل ذلك في الصلاة ، قال بعض السلف : إذا احتُضِر المؤمن يقال للملك شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال : شم قلبه فيقول : أجد في قلبه الصيام فيقال شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه حفظه الله تعالى .

خصومة القرآن لهاجره :

فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب للقرآن خصما له بحقوقه التي ضيعها .

وخرج الإمام أحمد من حديث سمُرة : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه ورجل قائم بيده فهرا وصخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه عاد  رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه فقيل له : هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )) وقد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ .

المجلس الثالث :

في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير

ليلة القدر ومتى هي ؟

في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : (( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد أريت الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين في صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر )) (1) .

فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش (2) فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين ، هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر وهذا السياق يقتضي أن تكرر منه .

وروى أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر .

(1) انظر الصحيحين في فضل ليلة القدر .

(2) على عريش : هو سقف المسجد .

 

وخرج ابن أبي عاصم في كتاب الصيام وغيره من حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع عشرة )) . أما الأول فخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : (( رأيتها ونسيتها فتحرها في النصف الأواخر )) ثم عاد فسأله فقال : (( التمسها في ليلة ثلاث وعشرين تمضي من الشهر )).

وقيل : إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : (( تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صباحية بدر أو إحدى وعشرين وفي رواية عنه قال : ليلة سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة )) .

شهر الغفران :

وفي شهر رمضان يلطف الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيغل فيه الشياطين ومردة والجن حتى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب ولهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمة لذلك ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين )) (1) ولمسلم : (( فتحت أبواب الرحمة )) وله أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين )) وخرَّج منه البخاري ذكر فتح أبواب الجنة .

وفي رواية للنسائي وتُغل فيه مردة الشياطين وللإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله كل يوم جنته ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله )) (3) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 1899 ) ومسلم في صحيحه ( الصيام / 2 ) بلفظ (( أبواب الرحمة )) .

(3) أخرجه احمد ( 4 . 79 ) عن أبي هريرة وإسناده ضعيف لضعف هشام ضعفه البخاري وقال أبو حاتم : منكر الحديث وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث .

 

وفي صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( في ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها )) .

وفي المسند من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح وإن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ )) وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر وذلك أنها تطلع لا شعاع لها .

وقال مجاهد في قوله تعالى : (( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )) قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطانٌ العمل فيها وعنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان وعنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا يحدث فيها أذى .

المجلس الرابع :

في ذكر العشر الأواخر من رمضان

في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله )) .

هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم : (( أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره )) .

وفي رواية لمسلم عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )) كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر :

فمنها : إحياء الليل فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله وقد روى من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ وأحيا الليل كله .

وفي المسند من وجه آخر عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر يعني الأخير شمر وشد المئزر .

ونقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلى العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلى الصبح في جماعة .

وكذا قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها .

ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال : هو كناية عن شدة جدِّه واجتهاده في العبادة .

ومنها : تأخيره للفطور إلى السحر روى عنه من حديث عائشة وأنس أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً ولفظ حديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحوراً أخرجه ابن أبي عاصم وإسناده مقارب وحديث أنس خرجه الطبراني ولفظه : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحوراً )) وفي إسناده حفص بن واقد ، قال ابن عدى : هذا الحديث من أنكر ما رأيت له .

مشروعية التزين في المناسبات :

وقال ابن جرير : كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان ، وروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل .

الاعتكاف :

ومنها : الاعتكاف ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى .

وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعة منهىُّ عنها ، سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات قال : (( هو في النار )) .

معنى الاعتكاف وحقيقته :

فمعنى الاعتكاف وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال مكان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : (( أنا جليس من ذكرني )) .

الحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة :

واختلف في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة أن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينوا دارهم بالفرش والبسط ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان ومساجدهم بالقناديل والمصابيح فيقول الرب تعالى أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم (( أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا )) الآية ، فقلت لكم (( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين .

قال مالك : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر .

إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد ، والاعتبار بر القلوب لا بعمل الأبدان ، رب قائم حظه من قيامه السهر ، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم ! هذا نام وقلبه ذاكر وهذا قام وقلبه فاجر ! ! .

إن المقادير إذا ساعدت

ألحقت النائم بالقائم

لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات ، والاجتهاد في الأعمال الصالحات .

المجلس الخامس :

في ذكر السبع الأواخر من رمضان

في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجلا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أرى رؤياكم كم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر )) (1) وفي صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي )) (2) .

(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 2015 ) ومسلم ( 1165 ) .

(2) أخرجه مسلم في صحيحه ( الصيام / 209 ) عن ابن عمر أيضا .

 

وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيباً وليلة أربع وعشرين ويقول : ليلة ثلاث وعشرين ليلة أهل المدينة وليلة أربع وعشرين ليلتنا يعني أهل البصرة وكذلك كان ثابت وحُميد يفعلان ، وكانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين رُوِىَ عن أنس والحسن وروى عنه قال : رقبت الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين فكانت تطلع لا شعاع لها .

وقد تقدم من حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع وعشرين لم يذق غمضا ، وإسناده ضعيف .

قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة )) وقد خرجه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه .

الاختلاف في ليلة القدر :

وقد اختلف الناس في ليلة القدر اختلافاً كثيراً فحكى عن بعضهم أنها رفعت وحديث أبي ذر يرد ذلك وروى عن محمد ابن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة وفي إسناده ضعيف .

وعن بعضهم أنها في كل السنة ، حكى عن ابن مسعود وطائفة من الكوفيين وروى عن أبي حنيفة . وقال الجمهور هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال : هي في الشهر كله وحكى عن بعض المتقدمين أنها أول ليلة منه وقالت طائفة : هي في النصف الثاني منه وقد حكى عن أبي يوسف ومحمد . وقد تقدم قول من قال : إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع وعشرين أو تسع وعشرين .

أرجى ليالي في ذلك :

واختلفوا في أرجى لياليه كما سبق واستدل من رجح ليلة سبع وعشرين بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك ويقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها وخرجه مسلم .

وخرجه أيضا بلفظ آخر عن أبى بن كعب رضي الله عنه قال : والله إني لأعلم أي ليلة هي وهي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وهي ليلة سبع وعشرين وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق على القيام فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال : (( عليك بالسابعة )) وإسناده على شرط البخارى .

ورواه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني رأيت في النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إني أرى رؤياكم قد تواطأت أنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها في ليلة سابعة )) قال معمر : فكان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين ، يشير إلى أنه حملها على سابعة تبقى .

وقد روى من وجوه متعددة فروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر ، قال ابن عباس : فقلت لعمر رضي الله عنه : إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي قال عمر رضي الله عنه : وأي ليلة هي ؟ قلت سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر رضي الله عنه : ومن أين علمت ذلك ؟ قال : فقلت : إن الله خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام وإن الدهر يدور على سبع وخلق الله الإنسان من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع والطواف بالبيت سبع رمى الجمار سبع ، لأشياء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : لقد فطنت لأمر ما فطنا له .

وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين من موضعين :

أحدهما : أن الله تعالى كرر ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها وليلة القدر حروفها تسع حروف والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون .

والثاني : أنه قال : (( سَلاَمٌ هِيَ )) فكلمة (( هِيَ )) الكلمة السابعة والعشرون من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة قال ابن عطية هذا من مُلَحِ التفسير لا من متين العلم وهو كما قال .

ثواب العمل في ليلة القدر :

وأما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .

وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا قال سفيان الثورى : الدعاء في تلك الليلة أحب إلى من الصلاة قال : وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق . انتهى .

ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسناً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم .

النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عائشة ما تقول في الدعاء :

قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )) .

العفو من أسماء الله تعالى وهو يتجاوز عن سيئات عباده ، الماحي لآثارها عنهم وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه وعفوه أحب إليه من عقوبته.

المجلس السادس :

في وداع رمضان

في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .

والجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر ويدل عليه ما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن لما اجتنبت الكبائر )) وفي تأويله قولان :

أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له هذه الأعمال كبيرة ولا صغيرة .

والثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال وسواء اجتنبت الكبائر أو لم تجنب وأنها لا تكفر الكبائر بحال .

أسباب الغفران في رمضان :

شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه وقيامه وقيام ليلة القدر فيه كما سبق .

ومنها : تفطير الصوام والتخفيف عن المملوك وهما مذكوران في حديث سلمان المرفوع .

ومنها : الذكر وفي حديث مرفوع (( ذاكر الله في رمضان مغفور له )) .

ومنها : الاستغفار والاستغفار طلب المغفرة ودعاء الصائم مستجاب في صيامه وعند فطره ولهذا كان ابن عمر إذا أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في فضل شهر رمضان : ويغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة ومن يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله .

ومنها : استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا وقد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان .

حديث المنبر :

في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه (( أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال : آمين آمين آمين ، قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين فقال : إن جبريل أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت : آمين ، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت : آمين ، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل : آمين فقلت : آمين )) .

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث والاستغفار يرفع ما انخرق من الصيام باللغو والرفث ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتى السهو للصلاة .

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجئ بصوم مرقع فليفعل .

وعن ابن المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها والكلام السيئ يخرق هذه الجنة والاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعمل صالح له شافع .

أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود وباب القبول عنه مسدود .

قال كعب : من صام رمضان وهو يحدث نفسه إنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود وخرجه سلمة بن شبيب .

شــــــــعر :

أتترك من تحب وأنت جـارُ

وتـــطلبهم وقد بعــــــد المزار ؟ !

وتبكي بعد نأيهم اشتياقـــــا

وتسأل في المنازل أين ساروا ؟ !

تركت سؤالهم وهم حضور

وترجو أن تخبرك الديــــــــــــــار

فنفسك لُم ولا تلُمِ المطايـــا

ومت كمداً فليس لك اعتــــــــــذار

يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تُدفق ، قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كلَّ ما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق .

شـــــــــعر :

عسى وعسى من قبل وقت التفرق

إلى كل من ترجو من الخير تلتقى

فيجبر مكسور ويقـــــبل تائـــــــب

ويعتق خطاء ويسعد من شقـــــــى

 

لطفاً قل ( اللهم أعنا على الصيام والقيام  )

 

المرجع :

لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 207 – 296 ” ، فصل : شهر رمضان ، بتصرف.

 

ما ورد في فضل شهر رجب

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ورد في فضل شهر رجب

خرجا في الصحيحين من حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في  حجة الوداع فقال في خطبته ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان ) وذكر الحديث ، قال الله عز وجل ( إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) .

وقوله صلى الله عليه وسلم ( إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ) مراده بذلك إبطال ما كانت الجاهلية تفعله من النسيء كما قال تعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحمونه عاماً ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله ) . .

سبب تسمية هذه الأشهر بالحرم :

واختلفوا لم سميت هذه الأشهر الربعة حرماً فقيل لعظم حرمتها وحرمة الذنب فيها ، قال غلب بن أبي طلحة عن ابن عباس : اختص الله أربعة أشهر عليهن حرماً وعظم حرماتهن وجعل الذنب فيهن أعظم وجعل العمل الصالح والأجر أعظم ،  قال كعب ( اختار الله الزمان فأحبه إلى الله الأشهر الحرم ) وقد روى مرفوعاً ولا يصح رفعه.

عجائب الأشهر الحرم :

ومن عجائب الأشهر الحرم ما روى عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه ذكر عجائب الدنيا فعد منها بأرض عاد عمود نحاس عليه شجرة من نحاس ، فإذا كان في الأشهر الحرم قطر منها الماء فملئوا منه حياضهم وسقوا مواشيهم وزرعهم ، فإذا ذهب الأشهر الحرم انقطع الماء .

أسماء شهر رجب :

وذكر بعضهم إن لشهر رجب أربعة عشر اسماً : شهر الله ، ورجب ، ورجب مضر ، ومنصل الأسنة ، والأصم ، والأصب ، ومنفس ، ومطهر ، ومعلى ، ومقيم ، وهرم ، ومقشقش ، ومبرئ ، وفرد ، وذكر غيره أن له سبعة عشر اسماً فزاد : رجم بالميم ومنصل الآلة وهي الحربة ، ومنزع الأسنة .

حكم الصوم في رجب  :

وأما الصيام فلم يصح في فضل صوم رجب بخصوصه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم ولاعن أصحابه ، ولكن روى عن أبي قلابة قال : في الجنة قصر لصوام رجب .

قال البيهقي : أبو قلابة من كبار التابعين لا يقول مثله إلا عن بلاغ ، إنما ورد في صيام الأشهر الحرم كلها حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : ( صم من الحرم واترك ) .

حكم الزكاة في رجب  :

وأما الزكاة فقد اعتاد أهل هذه البلاد ( كما في المرجع ) إخراج الزكاة في شهر رجب ، ولا أصل لذلك في السنة ، ولا عرف عن أحد من السلف ، ولكن رُوى عن عثمان أنه خطب الناس على المنبر فقال : إن هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه وليزك ما بقى ، خرجه مالك في الموطأ .

الاعتمار في رجب :

وأما الاعتمار في رجب فقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في رجب فأنكرت ذلك عائشة عليه … فسكت . ( المؤلف لم يذكر المرجع )

واستحب الاعتمار في رجب عمر بن الخطاب وغيره ، وكانت عائشة تفعله وابن عمر أيضا ، ونقل ابن سيرين عن السلف أنهم كانوا يفعلونه فإن أفضل الأنساك أن يؤتى بالحج في سفرة والعمرة في سفرة أخرى في غير أشهر الحج ، وذلك من جملة إتمام الحج والعمرة المأمور به ، كذلك قاله جمهور الصحابة كعمر وعثمان وعلي وغيرهم .

حوادث عظيمة حدثت في رجب :

وقد روى أنه كان في شهر رجب حوادث عظيمة ، ولم يصح شيء من ذلك ، فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد في أول ليلة منه ، وأنه بعث في السابع والعشرين منه وقيل : في الخامس والعشرين ، ولا يصح شيء من ذلك .

وروى بإسناد لا يصح عن القاسم بن محمد أن الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم كان في سابع وعشرين من رجب ، وأنكر ذلك ابراهيم الحربي وغيره .

وروى عن قيس بن عباد قال : في اليوم العاشر من رجب ( يمحو الله ما يشاء ويثبت )

وكان أهل الجاهلية يتحرون الدعاء فيه على الظالم وكان يستجاب لهم ، ولهم في ذلك أخبار مشهورة قد ذكرها ابن أبي الدنيا في كتاب ( مجاب الدعوة ) وغيره .

وقد ذكر ذلك لعمر بن الخطاب فقال عمر : إن الله كان يصنع بهم ذلك ليحجز بعضهم عن بعض ، وان الله جعل الساعة موعدهم ، والساعة أدهى وأمر .

وري زائدة بن أبي الرقاد عن زياد التميمي عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل رجب قال ( اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان ) إسناده ضعيف أخرجه احمد ( 2346) لضعف زائدة بن أبي الرقاد الباهلي هو منكر الحديث ، وعزاء الهيثمي في مجمع الزوائد (2/165) للبزار ، وقال : فيه زائدة بن أبي الرقاد ، قال البخاري : منكر الحديث ، ونسبه في موضع آخر للطبراني معه والحديث من زيادات عبدالله بن أحمد .

رجب مفتاح أشهر الخير :

شهر رجب مفتاح أشهر الخير والبركة ، قال أبو بكر الوراق البلخي : شهر رجب شهر الزرع وشعبان شهر السقي للزرع ، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع .

وعنه قال مثل شهر رجب مثل الريح ، ومثل شعبان مثل الغيم ، ومثل رمضان مثل القطر وقال بعضهم : السنة مثل شجرة ، وشهر رجب أيام توريقها ، وشعبان أيام تفريعها ورمضان أيام قطفها ، والمؤمنون قطافها جدير بمن سود صحيفته بالذنوب أن يبيضها بالتوبة في هذا الشهر وبمن ضيع عمره في البطالة أن يغتنم فيه ما بقي من العمر .

شـــــعر

بيض صحيفتك السوداء في رجب      بصالح العمل المنجي من الـلهب

شهر حرام أتى من أشهر حـرم         إذا دعا اللــه داع فيه لم بخب

طوبى لعبد زكــا فيه له عمـلُ         فكف فيه عن الفحشاء والريب

 

فضل وليس أمرا قل ( اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان )


المرجع :

لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 157 – 170 ” ، فصل : شهر رجب ، بتصرف.

 


ما ورد في فضل شهر صفر

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ورد في فضل شهر صفر

في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا عدوى ولا هامة ولا صفر ، فقال أعرابي : يا رسول الله ، فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيخالطها البعير الأجْرَبُ فَيُجربها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن أعدى الأول )) (1) أما العدوى فمعناها أن المرض يتعدى من صاحبه إلى من يقارنه من الأصحاء فيمرض بذلك ، وكانت العرب تعتقد ذلك في أمراض كثيرة منها الجرب ، ولذلك سأل الأعرابي عن الإبل الصحيحة يخالطها البعير الأجرب فتجرب ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( فمن أعدى الأول ؟ )) ومراده أن الأول لم يجرب بالعدوى بل بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده .

(1)   أخرجه البخارى في صحيحه ( 5757 ، 5770 ) ومسلم أيضاً ( 2220 ) من حديث أبي هريرة .

(2)   النقبة : أول ما يظهر من الجرب .

(4) هو مرسل أصح منه متصلاً والمرسل من أنواع الضعيف انظر المسند ( ح2ص356 ) .

(5) موت الفوات : المراد به موت الفجأة

من كرامات الأولياء :

ونظير ذلك ما روى عن خالد بن الوليد رضي الله عنه من أكل السم ومنه مشى سعد بن أبي وقاص ، وأبي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر (2) .

ومنه أمر عمر رضي الله عنه لتميم حيث خرجت النار من الحرة أن بردها فدخل إليها في النار التي خرجت منه .

فهذا كله لا يصلح إلا لخواص من الناس قوى إيمانهم بالله وقضائه وقدره وتوكلهم عليه وثقتهم به ونظير ذلك دخول المفاوز بغير زاد لمن قوى يقينه وتوكله خاصة ، وقد نص عليه أحمد وإسحاق وغيرهما من الأئمة وكذلك ترك التكسب والتطيب ، كل ذلك يجوز عند أحمد لمن قوى توكله فإن التوكل أعظم الأسباب التي تستجلب بها المنافع وتدفع بها المضار كما قال الفضيل : لو علم الله إخراج المخلوقين من قلبك لأعطاك كل ما تريد .

وبذلك فسر الإمام أحمد التوكل ، فقال : هو قطع الاستشراف باليأس من المخلوقين : قيل له : فما الحجة فيه ؟ قال : قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما ألقى في النار ، فعرض له جبريل عليه السلام فقال : ألك حاجة ؟ قال : أما إليك فلا ، فلا يُشْرع ترك الأسباب الظاهرة إلا لمن تعوض عنها بالسبب الباطن ، وهو تحقيق التوكل عليه فإنه أقوى من الأسباب الظاهرة لأهله وأنفع منها ، فالتوكل علم وعمل والعلم معرفة القلب بتوحيد الله بالنفع والضر وعامة المؤمنين تعلم ذلك والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين .

(2) هذا مروى في كتب التواريخ لكن الله تعالى أعلم بصحة وقوعه كما روى ، ولا حرج على فضل الله تعالى ، ولكن العمل بالأسباب الصحيحة هو الحق فإن اضطر الإنسان إلى خلافه توكل على الله واستيقن .

والأسباب نوعان :

أحدهما : أسباب الخير ، فالمشروع أنه يفرح بها ويستبشر ولا يسكن إليها بل إلى خالقها ومسببها وذلك هو تحقيق التوكل على الله والإيمان به ، كما قال تعالى في الإمداد بالملائكة (( وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللهِ )) ومن هذا الباب الاستبشار بالفأل وهو الكلمة والصالحة يسمعها طالب الحاجة وأكثر الناس يركن بقلبه إلى الأسباب وينسى المسبب لها وقلَّ من فعل ذلك إلا وكل إليها وخُذِل فإن جميع النعم من الله وفضله كما قال تعالى : (( مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ )) (( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )) .

  (4) إثر سماء : أي عقب نزول مطر .

والنوع الثاني : أسباب الشر ، فلا تضاف إلا الذنوب لأن جميع المصائب إنما هي بسبب الذنوب كما قال تعالى :  (( وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ )) وقال تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ )) فلا تضاف إلى شئ من الأسباب سوى الذنوب كالعدوى أو غيرها .

والمشروع اجتناب ما ظهر منها واتقاؤه بقدر ما وردت به الشريعة مثل اتقاء المجذوم والمريض والقدوم على مكان الطاعون وأما ما خفى منها فلا يشرع اتقاؤه واجتنابه فإن ذلك من الطِّيرة المنهى عنها .

لم نهى عن الطيرة ؟ :

والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر وقد حكاها الله في كتابه عن قوم فرعون وقوم صالح وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( لا طيرة )) وفي حديث (( من ردته الطيرة فقد قارف الشرك )) (3) .

وفي حديث ابن مسعود المرفوع : (( الطيرة من الشرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل )) .

(3) حديث في إسناده ضعف أخرجه أحمد في مسنده ( ح2ص . 22 ) فيه ابن لهيعة اختلط بعد احتراق كتبه ولكن للحديث شواهد .

وخرج الإمام أحمد وأبو داود من حديث عروة بن عامر القرشي قال ذكرت الطيرة عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك )) .

(3) المنعة : القوة ، والمطار : حديد الفؤاد القوي .

وأما قوله صلى الله عليه وسلم (( ولا صفر )) فاختلف في تفسيره فقال كثير من المتقدمين : الصفر داء في البطن : يقال : إنه دود فيه كبار كالحيات وكانوا يعتقدون أنه يعدي فنفى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وممن قال هذا من العلماء ابن عيينة والإمام أحمد وغيرهما ولكن لو كان كذلك لكان هذا داخلا في قوله لا عدوى وقد يقال : هو من باب عطف الخاص على العام وخصه بالذكر لاشتهاره عندهم بالعدوى .

وقالت طائفة : بل المراد صفر شهر ثم اختلفوا في تفسيره على قولين :

أحدهما : أن المراد نفي ما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسئ فكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك .

والثاني : أن المراد أن أهل الجاهلية كانوا يستشئون بصفر ويقولون : إنه شهر مشئوم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا حكاه أبو داود ، عن محمد بن راشد المكحولي عمن سمعه يقول ذلك ولعل هذا القول أشبه الأقوال .

وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهى عن السفر فيه ، والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهى عنها وكذلك التشاؤم بالأيام كيوم الأربعاء وقد روى أنه يوم نحس مستمر في حديث لا يصح بل في المسند عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الظهر والعصر ، قال جابر : فما نزل بي أمر مهم غائظ إلا توخّيتُ ذلك الوقت فدعوت الله فيه فرأيت الإجابة ، أو كما قال : وكذلك تشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة وقد قيل : إن أصله أن طاعونا وقع في شوال في سنة من السنين فمات فيه كثير من العرائس فتشاءم بذلك أهل الجاهلية .

وقد ورد الشرع بإبطاله قالت عائشة رضي الله عنها : تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال فأي نسائه كان أحظى عنده مني ؟ وكانت عائشة تستحب أن تدخل نساءها في شوال وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة في شوال أيضا .

هجران أماكن المعاصي :

هجران أماكن المعاصي وأخواتها من جملة الهجرة المأمور بها فإن المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، قال إبراهيم بن أدهم : من أراد التوبة فليخرج من المظالم وليدع مخالطة من كان يخالطه وإلا لم ينل ما يريد .

فائدة مجالس الذكر :

يا من ضاع قلبه انشده في مجالس الذكر عسى أن تجده ، يا من مرض قلبه احمله إلى مجلس الذكر لعله أن يعافى مجلس الذكر مارستان الذنوب ، تداوى فيها أمراض القلوب كما تداوى أمراض الأبدان .

وغير تقى يأمر الناس بالتقى      طبيب يداوي الناس وهو سقيم

يا أيها الرجل المقوم غيره        هلا لنفسك كان ذا التقويـــــــــمُ

ابدأ بنفسك فانهها عن غيها       فإذا انتهت عنه فأنت حكيــــــــم

فهناك يقبلُ ما تقول ويَقتدى       بالقول منك وينفع التعليــــــــــمـ

لا تنه عن خلق وتأتيَ مثله        عار عليك إذا فعلت عظيــــــــمـ

 

لطفاً قل ( اللهم صلي وسلم على نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم )

 

المرجع :

لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” 97 – 111 ” ، فصل : وظيفة شهر صفر ، بتصرف.

 

ما ورد في فضل شهر ربيع الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ورد في فضل شهر ربيع الأول

ويشتمل على مجالس :

المجلس الأول :

في ذكر مولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم

قدم نبوة النبي صلى الله عليه وسلم :

خرَّج الإمام أحمد من حديث العرباض بن سارية السلمي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إني عبد الله في أم الكتاب لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته وسوف أنبئكم بتأويل ذلك : دعوة أبي إبراهيم وبشارة عيسى قومه ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام وكذلك أمهات النبيين يَرين )) (1) وخرجه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد .

(1) أخرجه أحمد ( ج4 ص 127 ) والحاكم في المستدرك ( ج2 ص 418 ) وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ( 8 / 223 ) : رواه أحمد بأسانيد وأحد رجالها رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبان .

لولا محمد ما خلقتك يا آدم :

وقد رُوى أن آدم عليه الصلاة والسلام رأى اسم محمد صلى الله عليه وسلم مكتوبا على العرش وأن الله عز وجل قال لآدم : لولا محمد ما خلقتك وقد خرجه الحاكم في صحيحه (6) .

(6) حديث موضوع أخرجه الحاكم في المستدرك ( ج2 ص615 ) وقال : (( صحيح الإسناد ، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن )) يريد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وقال الحافظ الذهبي : بل هو موضوع وعبد الرحمن رواه ، ورواه عبد الله بن مسلم الفهري ولا أدري من ذا ! ! وانظر جامع الأحاديث القدسية للصبابطي ( 951 ) .

وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخلونها ويعجبون منها ويقولون : لولا موضع اللبنة ، زاد مسلم قال : فجئت فختمت الأنبياء )) .

(3) متفق على صحته أخرجه البخاري في المناقب من صحيحه ( 3534 ) ومسلم في الفضائل ( 2287 ) .

وقال صلى الله عليه وسلم : (( إن لكل نبي وليا من المؤمنين وأنا ولي إبراهيم )) .

وكان صلى الله عليه وسلم أشبه ولد إبراهيم به صورة ومعنًى حتى إنه أشبه في خلة الله تعالى ، فقال (( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا )) (5) .

(5) حديث موضوع من رواية الطبراني في الكبير عن أبي أمامة وتتمته عنده : (( وإن خليلي أبو بكر )) وهو حديث موضوع أيضًا من رواية ابن ماجه عن عبد الله بن عمرو بهذا اللفظ أيضا وزاد : (( فمنزلي ومنزل إبراهيم في الجنة يوم القيامة تجاهين ، والعباس بيننا ، مؤمن بين خليلين )) .

من أفضال الشام :

وأما إضاءة قصور بصرى بالنور الذي خرج معه فهو إشارة إلى ما خص الشام من نور نبوته بأنها دارُ ملكه كما ذكر كعب : إن في الكتب السابقة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مولده بمكة ومهاجره يثرب وملكه بالشام فمن مكة بدئت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلى الشام ينتهي ملكه ولهذا أسرى به صلى الله عليه وسلم إلى الشام بيت المقدس كما هاجر إبراهيم عليه الصلاة والسلام من قبله إلى الشام .

قال بعض السلف : ما بعث الله نبيا إلا من الشام فإن لم يبعثه منها هاجر إليها ، وفي آخر الزمان يستقر العلم والإيمان بالشام فيكون نور النبوة فيها أظهر منه في سائر بلاد الإسلام .

وفي المسند والترمذي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم )) يعني الشام (2) .

وبالشام ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان وهو المبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحكم به ولا يقبل من أحد غير دينه فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويصلي خلف إمام المسلمين ويقول : إن هذه الأمة أئمة بعضهم لبعض إشارة إلى أنه متبع لدينهم غير ناسخ له .

والشام هي في آخر الزمان أرض المحشر والمنشر (3) فيحشر الناس إليها قبل القيامة من أقطار الأرض فيهاجر خيار أهل الأرض إلى مهاجر إبراهيم وهي أرض الشام طوعا كما تقدم أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم .

(1) أخرجه أحمد في مسنده ( ج4 ص198 ، 199 ) والحاكم في المستدرك ( ج4 ص509 ) وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .

(2) أخرجه أحمد ( ج2 ص199 ) والحاكم ( ج4 ص510 ) وصححه على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وأبو داود في سننه في كتاب الجهاد .

(3) حديث صحيح أخرجه ابن ماجه في سننه ( 1407 ) عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس قال : (( أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره )) وللحديث تتمة ، وقال في الزوائد : (( روى أبو داود بعضه وإسناد ابن ماجه صحيح ورجاله ثقات )) والحديث أخرجه أحمد أيضا ( ج6 ص463 ) .

هذا الدعاء ليس في المرجع : فضلا قل ( اللهم فرج عن أهل الشام ما هم فيه )

المجلس الثاني :

في ذكر المولد أيضا :

خرَّج مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم الإثنين فقال : (( ذلك يوم ولدت فيه وأنزلت على فيه النبوة )) .

وحديث أبي قتادة يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ولد نهارا في يوم الإثنين ، وقد رُوى أنه ولد عند طلوع الفجر منه ، وروى أبو جعفر بن أبي شيبة في تاريخه وخرَّجه من طريقه أبو نعيم في الدلائل بإسناد فيه ضعف ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كان بمر الظهران راهب يدعى عيصا من أهل الشام وكان يقول : يوشك أن يولد فيكم يا أهل مكة مولود تدين له العرب ويملك العجم ، هذا زمانه ، فكان لا يولد بمكة مولود إلا سأل عنه فلما كان صبيحة اليوم الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عبد الله بن عبد المطلب حتى أتى عيصا ، فناداه فأشرف عليه فقال له عيص : كن أباه فقد ولد ذلك المولود الذي كنت أحدثكم عنه يوم الإثنين ويبعث يوم الإثنين ويموت يوم الإثنين ، قال : إنه ولد لي مع الصبح مولود قال : فما سميته؟ قال : محمد ، قال : والله لقد كنت أشتهي أن يكون هذا المولود فيكم أهل البيت لثلاث خصال بها نعرفه فقد أتى عليهن منها أنه طلع نجمه البارحة وأنه ولد اليوم وأن اسمه محمد ، انطلق إليه فإنه الذي كنت أحدثكم عنه (2) .

(2) هذا خبر منكر وإسناده ضعيف ، والعجب من ابن رجب أن يسوق مثل هذه الأخبار على مخالفتها لما هو أصح منها وأشهر ؛؛.

خاتم النبوة :

وفي صحيح الحاكم عن عائشة قالت : كان بمكة يهودي يتجر فيها فلما كانت الليلة التي ولد فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا معشر قريش هل ولد فيكم الليلة مولود ؟ قالوا : لا نعلمه ، فقال : ولد الليلة نبي هذه الأمة الأخيرة بين كتفيه علامة فيها شعرات متواترات كأنهن عرف فرس فخرجوا باليهودي حتى أدخلوه على أمه فقالوا : أخرجي إلينا ابنك فأخرجته وكشفوا عن ظهره فرأى تلك الشامة فوقع اليهودي مغشيّا عليه ، فلما أفاق قالوا : ويلك مالك ؟ قال : ذهبت والله النبوة من بني إسرائيل (1) .

آيات عند ولادته صلى الله عليه وسلم :

وقد روى في صفة ولادته آيات تستغرب فمنها : ما روى عن آمنة بنت وهب أنها قالت : وضعته فما وقع كما يقع الصبيان ، وقع واضعا يده على الأرض رافعا رأسه إلى السماء ، وروى أيضا أنه قبض قبضة من التراب بيده لما وقع بالأرض ، فقال بعض القافة : إن صدق الفال ليغلبن أهل الأرض ، وروى أنه وضع تحت جفنة فانفلقت عنه ووجدوه ينظر إلى السماء واختلفت الروايات : هل ولد مختونا ؟ فروى أنه ولد مختونا مسروراً يعني مقطوع السرة ، حتى قال الحاكم : تواترت الروايات بذلك .

(1) هذا حديث لا يصح أخرجه الحاكم في المستدرك ( ج2 ص602 ) وصحح إسناده وتعقبه الذهبي منكرا فقال : لا .

الاختلاف في شهر ولادته صلى الله عليه وسلم :

وأما شهر ولادته فقد اختلف فيه فقيل : في شهر رمضان روى عن عبد الله بن عمرو بإسناد لا يصح ، قيل : في رجب ولا يصح ، وقيل : في ربيع الأول وهو المشهور بين الناس حتى نقل ابن الجوزي وغيره عليه الاتفاق ولكنه قول جمهور العلماء .

ثم اختلفوا في أي يوم كان من الشهر فمنهم من قال : هو غير معين وإنما ولد في يوم الإثنين من ربيع من غير تعيين لعدد ذلك اليوم من الشهر ، والجمهور على أنه معين .

ثم اختلفوا فقيل : لليلتين خلتا منه وقيل : لثمان خلت منه وقيل : لعشر وقيل : لاثنتي عشرة ، وقيل لسبع عشرة ، وقيل : لثماني عشرة ، وقيل : لثمان بقين منه ، وقيل : إن هذين القولين غير صحيحين عمن حكيا عنه بالكلية ، والمشهور الذي عليه الجمهور أنه ولد يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول وهو قول ابن إسحاق وغيره .

وأما عام ولادته فالأكثرون على أنه عام الفيل ، ومن قال ذلك قيس بن مخرمة وقباث ابن أشيم وابن عباس ، وروى عنه أنه ولد يوم الفيل ، وقيل : إن هذه الرواية وهم ، إنما الصحيح عنه أنه قال : عام الفيل ، ومن العلماء من حكى الاتفاق على ذلك ، وقال : كل قول يخالفه وهم .

والمشهور أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعد الفيل بخمسين يوما ، وقيل : بعده بخمس وخمسين يوما ، وقيل : بشهر ، وقيل : بأربعين يوما ، وقد قيل : إنه ولد بعد الفيل بعشر سنين وقيل : بثلاث وعشرين سنة ، وقيل : بأربعين سنة ، وقيل : قبل الفيل بخمس عشرة سنة ، وهذه الأقوال وهم عند جمهور العلماء ومنه ما لا يصح عمن حكى عنه .

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا : (( تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله ، إلا رجل كان بينه وبين أخيه شحناء ، فيقال : انظروا هذين حتى يصلحا ))

ويروى من حديث أبي أمامة مرفوعا (( ترفع الأعمال يوم الاثنين والخميس فيغفر للمستغفرين ويترك أهل الحقد كما هم )) .

كان بعض التابعين يبكي إلى امرأته يوم الخميس وتبكي إليه ، ويقول : اليوم تعرض أعمالنا على الله عز وجل ، يا من يبهرج بعمله على من تبهرج ؟ والناقد بصير ، يا من يُسَوف بتطويل أمله كم تُسوف والعمر قصير ؟

شعر :

صُروف الحَتْفِ مُترِعَةُ الكئوس      تدور على الرعايا والرءوس

فلا تتبع هواك فكلُّ شخــــــــصٍ      يصير إلى بلًى وإلى دُرُوســـ

وخَفْ من هول يوم قمطريــــــرٍ      مخوفٍ شرُّه ضنكٌ عبوســـــ

فما لك غير تقــــــــــوى الله زاد      وفعلك حيت تقبر من أنيســــ

فحسِّنه ليعرض مستقيمــــــــــــا      ففي الاثنين يُعرَض والخميسـ

المجلس الثالث :

في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم :

في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس على المنبر فقال : (( إن عبدا خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء ، وبين ما عنده فاختار ما عنده )) فبكى أبو بكر ، وقال : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، قال : فعجبنا ، وقال الناس : انظروا إلى هذا الشيخ يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عند الله وهو يقول : فديناك بآبائنا وأمهاتنا ؟ قال : فكان رسول الله هو المُخيَّر ، وكان أبو بكر هو أعلمنا به فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن من أمَنِّ الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر ، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ولكن أخوة الإسلام لا تبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر رضي الله عنه )) .

حكمة المرض :

مفارقة الجسد للروح لا تقع إلا بعد ألم عظيم تذوقه الروح والجسد جميعا فإن الروح قد تعلقت بهذا الجسد وألفته واشتدت ألفتها له وامتزاجها به ودخولها فيه حتى صارا كالشئ الواحد فلا يتفارقان إلا بجهد شديد وألم عظيم ، ولم يذق ابن آدم في حياته ألما مثله ، وإلى ذلك الإشارة بقول الله عز وجل : (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )) قال الربيع بن خثيم : أكثروا ذكر هذا الموت فإنكم لم تذوقوا قبله مثله .

وقد سمى الله تعالى ذلك سكرة لأن ألم الموت مع ما ينضم إليه يسكر صاحبه فيغيب عقله غالبا ، قال الله تعالى : (( وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ )) .

ألا للموت كأسٌ أيُّ كـــأس

وأنت لكأسه لا بد حاســي

إلى كم والممات إلى قريب

تُذكر بالممات وأنت ناسي ؟

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة ذكر الموت فقال : (( أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت )) .

وفي حديث مرسل : (( أنه صلى الله عليه وسلم مر بمجلس قد استعلاه الضحك فقال : (( شوبوا مجلسهم بذكر مكدر اللذات الموت )) .

فوائد ذكر الموت :

وفي الإكثار من ذكر الموت فوائد : منها أنه يحث على الاستعداد له قبل نزوله ويقصر الأمل ويرضى بالقليل من الرزق ويزهد في الدنيا ويرغب في الآخرة ويهون مصائب الدنيا ويمنع من الأشر والبطر والتوسع في لذات الدنيا ، وفي حديث أبي ذر المرفوع الذي خَرَّجَه ابن حبان في صحيحه وغيره أن صحف موسى كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ؟ عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ؟

عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب ؟ عجبت لمن رأى الدنيا وسرعة تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ .

يا غافلَ القلب عن ذكر المنِيات      عَمّا قليل سَتُلْقَى بين أموات

فاذكر محلك من قبل الحلول به       وَتب إلى الله من لهو ولذات

إن الحِمَامَ له وقتٌ إلى أجـــــل       فاذكر مصائب أيام وساعات

لا تطمئن إلى الدنيا وزينتــــها      قد آن للموت يا ذا اللب أن يأتي

قال بعض السلف : شيئان قطعا عني لذاذة الدنيا : ذكر الموت والوقوف بين يدي الله عز وجل .

* نُحْ على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح *

* لتموتــــن ولو عُمِّرتَ ما عُمِّرَ نـــــوح *

لما كان الموت مكروها بالطبع لما فيه من الشدة والمشقة العظيمة لم يمت نبي من الأنبياء حتى يُخَيَّر ولذلك وقع التردد فيه في حق المؤمن ، كما في حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله عز وجل وما ترددت عن شئ أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه )) كما رواه البخاري .

أول ما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم من انقضاء عمره باقتراب أجله بنزول سورة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ )) وقيل لابن عباس رضي الله عنهما : هل كان يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم متى يموت ؟ قال : نعم ، قيل : ومن أين ؟ قال : إن الله تعالى جعل علامة موته في هذه السورة (( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ )) يعني فتح مكة (( وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا )) وذلك علامة موته وقد كان نعى نفسه إلى فاطمة صلى الله عليه وسلم فإن المراد من هذه السورة إنك يا محمد إذا فتح الله عليك ودخل الناس في دينك الذي دعوته إليه أفواجا فقد اقترب أجلك فتهيأ للقائنا بالتحميد والاستغفار فإنه قد حصل منك مقصود ما أمرت به من أداء الرسالة والتبليغ وما عندنا خير لك من الدنيا فاستعد للنقلة إلينا .

قال وهب بن الورد : إن لله ملكا ينادي في السماء كل يوم وليلة : أبناء الخمسين زرع دنا حصاده ، أبناء الستين هلموا إلى الحساب ، أبناء السبعين ماذا قدمتم ؟ وماذا أخرتم ؟ أبناء الثمانين لا عذر لكم .

وعن وهب قال : ينادى مناد : أبناء الستين عدو أنفسكم في الموتى ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعذر الله إلى من بلغه ستين من عمره )) (1) .

وفي حديث آخر (( إذا كان يوم القيامة نودي أين أبناء الستين )) ؟ .

قال الفضيل لرجل : كم أتى عليك ؟ قال ستون سنة ، قال له : أنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك ، يوشك أن تبلغ ، فقال الرجل : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فقال فضيل : من علم أنه لله عبد وأنه إليه راجع ، فليعلم أنه موقوف وأنه مسئول ، فليعد للمسألة جوابا، فقال له الرجل : فما الحيلة ؟ قال : يسيرة ، قال : ما هي ؟ قال : تُحْسن فيما بقي يغفر لك ما مضى فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت بما مضى وما بقي .

(1) حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق باب (5) ، وأحمد في مسنده (ج3 ص275 ) .

وما زال صلى الله عليه وسلم يُعَرِّضُ باقتراب أجله في آخر عمره ، فإنه لما خطب في حجة الوداع قال للناس : (( خذوا عني مناسككم فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا )) وطفق يودع الناس فقالوا : هذه حجة الوداع فلما رجع من حجته إلى المدينة جمع الناس بماء يدعى خُمّا في طريقه بين مكة والمدينة فخطبهم وقال : (( أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب )) ثم حض على التمسك بكتاب الله ووصى بأهل بيته ثم إنه لما بدأ به مرض الموت خُير بين لقاء الله وبين زهرة الدنيا والبقاء فيها ما  شاء الله ، فاختار لقاء الله وخطب الناس وأشار إليهم بذلك إشارة من غير تصريح .

ابتداء مرضه صلى الله عليه وسلم :

وكان ابتداء مرضه في أواخر شهر صفر ، وكانت مدة مرضه ثلاثة عشر يوما في المشهور وقيل : أربعة عشر يوما وقيل اثنا عشر يوما وقيل عشرة أيام وهو غريب ؛ وكانت خطبته التي خطب بها في حديث أبي سعيد هذا الذي نتكلم عليه ههنا في ابتداء مرضه ، ففي المسند وصحيح ابن حبان عن أبي سعيد الخدري قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو معصوب الرأس ، فقام على المنبر فقال : (( إن عبدا عرضت عليه الدنيا وزينتها فاختار الآخرة )) قال : فلم يفطن لها أحد من القوم إلا أبو بكر ، فقال : بأبي وأمي ، بل نفديك بأموالنا وأنفسنا وأولادنا قال : ثم هبط عن المنبر فما رئى عليه حتى الساعة .

تخليف أبي بكر الصديق رضى الله عنه :

ثم قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يبقين خوخة في المسجد إلا سُدَّتْ إلا خوخة أبي بكر )) وفي رواية : (( سدوا هذه الأبواب الشارعة في المسجد إلا باب أبي بكر )) وفي هذا الإشارة إلى أن أبا بكر هو الإمام بعده .

أول ما ابتدئ به صلى الله عليه وسلم من الوجع :

وكان أول ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرضه وجع رأسه ، ولهذا خطب وقد عصب رأسه بعصابة دسماء وكان صداع الرأس والشقيقة يعتريه كثيرا في حياته ويتألم منه أياما ، وصداع الرأس من علامات أهل الإيمان وأهل الجنة ، وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف أهل النار فقال : (( هم الذين لا يألمون رءوسهم )) .

ودخل عليه أعرابي فقال له : يا أعرابي هل أخذك هذا الصداع ؟ فقال : (( وما الصداع )) ؟ قال : (( عروق تضرب على الإنسان في رأسه )) فقال : ما وجدت هذا ، فلما ولَّى الأعرابي قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا )) خرجه الإمام أحمد والنسائي .

وقال كعب : أجد في التوراة : لولا أن يحزن عبدي المؤمن لعصبت الكافر بعصابة من حديد لا يصدع أبدا .

شدة المرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم :

فقد تبين أن أول مرضه كان صداع الرأس والظاهر أنه كان مع حمَّى ، فإن الحمى اشتدت به في مرضه ، فكان يجلس في مخضب ويصب عليه الماء من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن ، يتبرد بذلك وكان عليه قطيفة فكانت حرارة الحمى تصيب من وضع يده عليه من فوقها فقيل له في ذلك ، فقال : (( إنا كذلك يُشدد علينا البلاء ويضاعف لنا الأجر )) وقال : (( إني أوعك كما يوعك رجلان منكم )) .

زهده وورعه :

وكان عنده في مرضه سبعة دنانير فكان يأمرهم بالصدقة بها ثم يغمى عليه فيشتغلون بوجعه فدعا بها فوضعها في كفه وقال (( ما ظن محمد بربه لو لقى الله وعنده هذه ثم تصدق بها كلها )) .

فكيف يكون حال من لقى الله وعنده دماء المسلمين وأموالهم المحرمة ؟ وما ظنه بربه ؟ .

قال جعفر بن محمد عن أبيه : لما بقى من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث نزل عليه جبريل عليه السلام فقال : يا أحمد إن الله قد أرسلني إليك إكراماً وتفضيلا لك وخاصة لك يسألك عما هو أعلم به منك ، يقول لك كيف تجدك ؟ فقال : أجدني يا جبريل مغموما ، وأجدني يا جبريل مكروبا ، ثم أتاه في اليوم الثاني فقال له مثل ذلك ، ثم أتاه في اليوم الثالث فقال له مثل ذلك ، ثم استأذن فيه ملك الموت فقال جبريل : يا أحمد هذا ملك الموت يستأذن عليك ولم يستأذن على آدمي كان قبلك ولا يستأذن على آدمي بعدك ، قال : ائذن له فدخل ملك الموت فوقف بين يديه فقال : يا رسول الله ، يا أحمد ، إن الله أرسلني إليك وأمرني أن أطيعك في كل ما تأمر ، إن أمرتني أن أقبض نفسك قبضتها وإن أمرتني أن أتركها تركتها ، قال : وتفعل ذلك يا ملك الموت ؟

قال : بذلك أُمرت أن أطيعك في كل ما أمرتني به ، فقال جبريل : يا أحمد إن الله قد اشتاق إليك ، قال : فامض يا ملك الموت لما أُمرت به ، فقال جبريل عليه السلام : السلام عليك يا رسول الله ، هذا آخر موطئي من الأرض ، إنما كنت حاجتي من الدنيا .

تاريخ الوفاة :

وكانت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين في شهر ربيع الأول بغير خلاف وكان قد كشف الستر في ذلك اليوم والناس في صلاة الصبح خلف أبي بكر ، فَهمَّ المسلمون أن يفتتنوا من فرحهم برؤيته صلى الله عليه وسلم حين نظروا إلى وجهه ، كأنه ورقة مصحف وظنوا أنه يخرج للصلاة فأشار إليهم أن مكانكم ثم أرخى الستر .

وتوفى صلى الله عليه وسلم من ذلك اليوم وظن المسلمون أنه صلى الله عليه وسلم قد برئ من مرضه لما أصبح يوم الاثنين مفيقاً ، فخرج أبو بكر إلى منزله بالسُّنْح خارج المدينة فلما ارتفع الضحى من ذلك اليوم توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وقيل : توفى حين زاغت الشمس والأول أصح ، وأنه توفى حين اشتد الضحا من يوم الاثنين ، في مثل الوقت الذي دخل فيه المدينة ، حين هاجر إليها .

واختلفوا في تعيين ذلك اليوم من الشهر فقيل : كان أوله ، وقيل : ثانيه ، وقيل : ثاني عشرة وقيل ثالث عشرة وقيل خامس عشرة ، والمشهور بين الناس أنه كان ثاني عشر ربيع الأول .

فجيعة المسلمين ودهشتهم :

ولما توفي صلى الله عليه وسلم اضطرب المسلمون فمنهم من دهش فخولط ، ومنهم من أقعد فلم يطق القيام ، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام ، ومنهم من أنكر موته بالكلية ، وقال : إنما بُعث إليه كما بُعث إلى موسى ، وكان من هؤلاء عمر وبلغ الخبر أبا بكر فأقبل مسرعاً حتى دخل بيت عائشة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى ، فكشف عن وجهه الثوب وأكبَّ عليه وقَبَّل جبهته مراراً وهو يبكي ، وهو يقول : وا نبياه وا خليلاه وا صفياه ، وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، مات والله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : والله لا يجمع الله عليك موتتين ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد مُتَّها .

ثم دخل المسجد وعمر يكلم الناس وهم يجتمعون عليه فتكلم أبو بكر وتشهد وحمدالله فأقبل الناس إليه وتركوا عمر ، فقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، وتلا : (( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ )) الآية ، فاستيقن الناس كلهم بموته وكأنهم لم يسمعوا هذه الآية من قبل أن يتلوها أبو بكر ، فتلقاها الناس منه فما يسمع أحد إلا يتلوها .

وقالت فاطمة عليها السلام :

* يا أبتاه أجاب ربّا دعــــــاه *

* يا أبتاه جنة الفردوس مأواه *

* يا أبتاه إلى جبريل أنعـــــاه *

* يا أبتاه مِنْ ربه ما أدنــــــاه *

وعاشت بعده ستة أشهر فما ضحكت في تلك المدة وحُقَّ لها ذلك .

على مثل ليلى يقتل المرء نفسه

وإن كان من ليلى على الهجر طاويا

كل المصائب تهون عند هذه المصيبة :

في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه : (( يا أيها الناس إنْ أحدٌ من الناس أو المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعزَّبمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري ، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي )) .

قال أبو الجوزاء : كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه ويقول : يا عبد الله ، اتق الله فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة .

شعــــــــــــر :

اصبر لكل مصيبة وتَجَلــــــــد       واعلم بأن المرء غَيْرُ مخلـــــد

واصبر كما صَبَر الكرامُ فإنها       نُوب تنوب اليومَ تُكْشَفُ في غد

وإذا أتتك مصيبة تُشْجى بهــــا       فاذكر مصابك بالنبي محمــــــد

وروى أن بلالا كان يؤذن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قبل دفنه ، فإذا قال أشهد أن محمدا رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب ، فلما دفن ترك بلال الأذان مَا أمرَّ عيشَ من فارق الأحباب ، خصوصا من كانت رؤيته حياة الألباب .

شعـــــــــــــر :

لو ذاق طعم الفراق رضوى

لكاد من وجده يميـــــد

قد حَملوني عذابَ شــــــــوق

يعجز عن حمله الحديد

لما دفن الرسول صلى الله عليه وسلم قالت فاطمة : كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ . انتهى

 

ملاحظة :

المؤلف ابن رجب الحنبلي رحمه الله رحمة واسعة لم يورد فضلاً للشهور التالية : شهر ربيع الثاني ، شهر جمادي الأولى ، شهر جمادي الثاني بل انتقل إلى فضل شهر رجب فإن كان في العمر بقية نلتقي بإذن الله فيما ورد في فضل شهر رجب وإن وافتنا المنية فلا تنسونا من صالح دعائكم . الفقير إلى عفو ربه أبو عبد الملك الدعيس

 

لطفاً قل ( اللهم فرج عن أهل الشام ما هم فيه )

 

المرجع :

لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 113 – 156 ” ، فصل : شهر ربيع الأول ، بتصرف.

 

ما ورد في فضل شهر الله المحرم

بسم الله الرحمن الرحيم

ما ورد في فضل شهر الله المحرم

وعشره الأول

أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله الذي تدعونه المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة قيام الليل )) . (1)

(1) أخرجه مسلم ( 1163 ) من حديث أبي هريرة .

خلاف حول أي الشهور أفضل :

وقد اختلف العلماء في أي الأشهر الحرم أفضل ؟ فقال الحسن وغيره : أفضلها شهر الله المحرم ورجحه طائفة من المتأخرين وروى وهب بن جرير عن قرة بن خالد عن الحسن قال : إن الله افتتح السنة بشهر حرام وختمها بشهر حرام فليس شهر في السنة بعد شهر رمضان أعظم عند الله من المحرم وكان يسمى (( شهر الله الأصم )) من شدة تحريمه وقد روى عنه مرفوعا ومرسلا قال آدم بن أبي إياس : حدثنا أبو هلال الراسبي عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل الأوسط وأفضل الشهور بعد شهر رمضان المحرم وهو شهر الله الأصم )) .

وأخرج النسائي من حديث أبي ذر قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الليل خير وأي الأشهر أفضل ؟ فقال : (( خير الليل جوفه وأفضل الأشهر شهر الله الذي تدعونه المحرم )) وإطلاقه في هذا الحديث أفضل الأشهر محمول على ما بعد رمضان كما في رواية الحسن المرسلة . وقال سعيد بن جبير وغيره (( أفضل الأشهر الحرم ذو القعدة )) أو ذو الحجة بل قد قيل (( إنه أفضل الأشهر مطلقاً )) وسنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى .

وزعم بعض الشافعية أن أفضل الأشهر الحرم رجب وهو قول مردود وأفضل شهر الله المحرم عشره الأول وقد زعم يمان بن رآب أنه العشر الذي أقسم الله به في كتابه ولكن الصحيح أن العشر المقسم به عشر ذي الحجة كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .

(1) أبو عثمان النهدي : هو عبد الرحمن بن ملَّ ممن أدرك الجاهلية لكنه أسلم ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم فهو في عداد التابعين .

وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم المحرم شهر الله وإضافته إلى الله تدل على شرفه وفضله فإن الله تعالى لا يضيف إليه إلا خواصَّ مخلوقاته كما نسب محمدا وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم من الأنبياء إلى عبوديته .

(1)   عبد الله بن المبارك : إمام من أئمة المسلمين جمع بين العلم والزهد والجهاد في سبيل الله توفي بالعراق سنة 182 هـ ، والذي قاله يشير إلى أن الأعمال بخواتيمها كما صح به الحديث .

شــــــعر :

شهرُ الحرام مبارك ميمون

والصوم فيه مضاعفٌ مسنونُ

وثواب صائمه لوجه إلهــــه

في الخلد عنه مليكـه مخـزونُ

وممن سرد الصوم عمر وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة وخلق كثير من السلف وممن صام الأشهر الحرم كلها ابن عمر والحسن البصري وغيرهما ، قال بعضهم : إنما هو غذاء وعشاء فإن أخرت غداءك إلى عشائك أمسيت وقد كتبت في ديوان الصائمين .

في التوراة : طوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر ، طوبى لمن ظمأ نفسه ليوم الري الأكبر ، طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعد غُيِّبَ لم يره ، طوبى لمن ترك طعاما ينفد في دار تنفد لدار (( أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا )) .

حكمة إخفاء الصوم :

ولما كان الصيام سراً بين العبد وبين ربه اجتهد المخلصون في إخفائه بكل طريق حتى لا يطلع عليه أحد ، قال بعض الصالحين : بلغنا عن عيسى ابن مريم عليه السلام أنه قال : إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن لحيته ويمسح شفتيه من دهنه حتى ينظر إليه الناظر فيظن أنه ليس بصائم .

وقال أبو التياح : أدركت أبي وشيخةَ الحي إذا صام أحدهم ادَّهن وليس صالح ثيابه .

صام بعض السلف أربعين سنة لا يعلم به أحد وكان له دكان فكان كل يوم يأخذ من بيته رغيفين ويخرج إلى دكانه فيتصدق بهما في طريقه فيظن أهله أنه يأكلهما في السوق ويظن أهل السوق أنه قد أكل في بيته قبل أن يجئ .

اشتهر بعض الصالحين بكثرة الصيام فكان يقوم يوم الجمعة في مسجد الجامع فيأخذ إبريق الماء فيضع بلبلته في فيه ويمتصها والناس ينظرون إليه لا يدخل حلقه منه شيئ لينفي عن نفسه ما اشتهر به من الصوم .

كم يستر الصادقون أحوالهم وريح الصدق ينم عليهم ، ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية .

الفصل الثاني

في فضل قيام الليل

وقد دل حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا على أنه أفضل الصلاة بعد المكتوبة ، وهل هو أفضل من السنن الراتبة ؟ فيه خلاف سبق ذكره .

وقال ابن مسعود رضي الله عنه (( فضل صلاة الليل على صلاة النهار كفضل صدقة السر على صدقة العلانية )) وأخرجه الطبراني عنه مرفوعا والمحفوظ وقفه .

وقال عمرو بن العاص : ركعة بالليل خير من عشر بالنهار ، أخرجه ابن أبي الدنيا ، وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها أبلغ في الأسرار وأقرب إلى الإخلاص .

كان السلف يجتهدون على إخفاء تهجدهم .

قال الحسن : كان الرجل يكون عنده زواره فيقوم من الليل يصلي لا يعلم به زواره .

كما قال تعالى : (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً )) ولهذا المعنى أمر بترتيل القرآن في قيام الليل ترتيلا ، ولهذا كانت صلاة الليل تنهاه عن الإثم كما يأتي في حديث أخرجه الترمذي .

وفي المسند عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلانا يصلي من الليل فإذا أصبح سرق ، فقال : سينهاه ما تقول .

فائدتان عظيمتان في قيام الليل :

فأشارت عائشة رضي الله عنها إلى قيام الليل فيه ( فائدتان عظيمتان ) .

1-   الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتأسي به وقد قال الله عز وجل : (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )) .

2-   وتكفير الذنوب والخطايا فإن بني آدم يخطئون بالليل والنهار فيحتاجون إلى الاستكثار من مكفرات الخطايا .

حديث المنام ودلالته على فضل قيام الليل :

وفي حديث المنام المشهور الذي خرجه الإمام أحمد والترمذي (( أن الملأ الأعلى يختصمون في الدرجات والكفارات وفيه أن الدرجات إطعام الطعام وإفشاء السلام والصلاة بالليل والناس نيام )) .

أبيات من الشعر :

يـــا رجــــالَ الـليل جِـدُّوا            رُبَّ داع لا يــــــُرَدُّ

مـــا يــقوم الـلـــــــــيل إلا            من له عَـزْم وجِــــدُّ

ليــس شــئٌ كـصــــــــلاة            الـلـــيل لِلقــبر يُعـــد

صلى كثير من السلف صلاة الصبح بوضوء العشاء عشرين سنة ومنهم من صلى كذلك أربعين سنة ، قال بعضهم : منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر .

قال ثابت : كابدت قيام الليل عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة أخرى .

أفضل قيام الليل وسطه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أفضل القيام قيام داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه )) .

يا نفس قومي فقد نام الـــورى

إن تصنعي الخير فذو العرش يرى

وأنت يا عين دعى عنك الكرى (3)

عند الصباح يحمد الــــــــقوم السرى

قيل لابن مسعود رضي الله عنه : ما نستطيع قيام الليل ، قال : أقعدتكم ذنوبكم ، وقيل للحسن : قد أعجزنا قيام الليل ، قال : قيدتكم خطاياكم ، وقال الفضيل بن عياض : إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم كبلتك خطيئتك ، قال الحسن : إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به قيام الليل .

(2)   المعرسون : يقال : عرس المسافر إذا نزل عن دابته في وجه السحر للراحة .

(3)   الكرى : النوم .

(4)   ثياب رثة : أي بالية متهالكة .

صلاتُك نورّ والعــبادُ رقــود

ونومك ضِدٌّ للصلاة عنيـــدُ

كان بعض العلماء يقوم السحر فنام عن ذلك ليالي فرأى في منامه رجلين وقفا عليه وقال أحدهما للآخر : هذا كان من المستغفرين بالأسحار فترك ذلك .

وكان آخر يقوم الليل فنام ليلة فأتاه آت في منامه فقال : ما لك قصرت في الخطبة ؟

أما علمت أن المتهجد إذا قام إلى تهجده قالت الملائكة قام الخاطب إلى خطبته ؟ ورأى بعضهم حوراء في نومه فقال لها : زوجيني نفسك ، قالت : اخطبني إلى ربي وامهرني ، قال : ما مهرك ؟ قالت : طول التهجد .

نام ليلة أبو سليمان فأيقظته حوراء وقالت : يا أبا سليمان تنام وأنا أرَبَّى لك في الخدور من خمسمائة عام ؟ .

يا راقـــد الـــليل كم ترقـــــد

قـــم يا حبيبي قــد دنا الــموعـــــدُ

وخــذ من الــليل وأوقــاتـــه

وِرْدا إذا مـــــا هَــجَـــــع الرقّـــــَد

من نام حتى ينقضــي ليلـــــهُ

لم يبلــــغ المـــــــنزل أو يجهـــــدُ

قل لأولـى الألــباب أهـل التقـى

قـــنطـــرة الـــعرض لكم موعــــدُ

في يوم عاشوراء :

في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن يوم عاشوراء فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يتحرى فضله على الأيام إلا هذا اليوم يعني يوم عاشوراء وهذا الشهر يعني رمضان .

يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة وحرمة قديمة وصومه لفضله كان معروفا بين الأنبياء عليهم السلام وقد صامه نوح وموسى عليهما السلام كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، وروى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( يوم عاشوراء كانت تصومه الأنبياء فصوموه أنتم )) خرجه بقى بن مخلد في مسنده .

وقد كان أهل الكتاب يصومونه وكذلك قريش في الجاهلية كانت تصومه ، قال دلهم ابن صالح : قلت لعكرمة : عاشوراء ما أمره ؟ قال : أذنبت قريش في الجاهلية ذنبا فتعاظم في صدورهم فسألوا : ما توبتهم ؟ قيل : صوم عاشوراء يوم العاشر من المحرم .

فعل الرافضة فيه :

وأما اتخاذه مأتما كما تفعله الرافضة لأجل قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا وهو يحسب أنه يحسن صنعا ولم يأمر الله ولا رسوله باتخاذ أيام مصائب الأنبياء وموتهم مأتماً ، فكيف بمن دونهم ؟ .

ومن فضائل يوم عاشوراء أنه يوم تاب الله فيه على قوم من فضائل يوم عاشوراء .

وقد سبق حديث على الذي خرجه الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : (( إن كنت صائما شهرا بعد رمضان فصم المحرم فإن فيه يوما تاب الله على قوم ويتوب فيه على آخرين )) وقد صح من حديث أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد قال : سألت عبيد بن عمير عن صيام يوم عاشوراء
فقال : (( المحرم شهر الله الأصم ، فيه يوم تيب فيه على آدم فإن استطعت أن لا يمر بك إلا صمته )) كذا رُوِيَ عن شعبة عن أبي إسحاق .

سيد الاستغفار :

وفي حديث شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( سيد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت )) الاعتراف يمحو الاقتراف كما قيل :

فإن اعتراف المرء يمحو اقترافه

كما أن إنكار الذنوب ذنوب

حسد إبليس آدم :

لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شئ وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه حتى أقروا بالعجز عن علمه وأقروا له بالفضل وأُسكن هو وزوجته الجنة ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى ، وما زالت الفضائل إذا ظهرت تُحسدَ .

شعـــــــر :

لا مات حسادك بل خُلِّــــدوا

حتى يروا منك الذي يُكْمِد

لا زالت محسوداً على نعمةٍ

فإنما الكامل من يُحْسَـــــــدُ

فما زال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول ، إنما أهلك إبليس العُجْبُ بنفسه ولذلك قال (( أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ )) وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه (( قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا )) .

كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحتراق إبليس :

شعــــــر :

وإذا أراد الله نشـــر فضــيلـــة

طُويَت أتاح لها لسانَ حســــــود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

ما كان يعرف طيبُ عَرْفِ العود

قال بعض السلف : آدم أخرج من الجنة بذنب واحد وأنتم تعملون الذنوب وتكثرون منها وتريدون أن تدخلوا بها الجنة .

(1)   سبانا : أسرنا .

(2)   الحديث في الصحيحين وفي غيرهما ، وانظر صحيح مسلم ( 2652 ) .

(3)   أخرجه مسلم ( 2664 ) وتمامه : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كلًّ خير ، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وإن أصابك شئ فلا تقل : لو أن فعلت كذا وكذا ولكن قل : قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان )) .

من فضلك قل ( اللهم أنر على أهل القبور قبورهم )

المرجع :

لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 45 – 86 ” ، فصل : شهر الله المحرم ، بتصرف.