بسم الله الرحمن الرحيم
ما ورد في فضل شهر رمضان المعظم
وفيه مجالس :
المجلس الأول :
في فضل الصيام :
ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله عز وجل : إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) (1) وفي رواية (( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي )) وفي رواية للبخاري (( لكل عمل كفارة والصوم لي وأنا أجزي به )) وخرجه الإمام أحمد من هذا الوجه ولفظه (( كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم والصوم لي وأنا أجزي به )) (2) .
ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمى شهر رمضان شهر الصبر وفي حديث آخر عنه صلى الله عليه وسلم قال (( الصوم نصف الصبر )) (4) خرجه الترمذي .
(1) حديث صحيح من رواية الشيخين في كتابي الصوم من صحيحيهما .
(2) أخرجه الترمذي في سننه (3519) عن جرى النهدي عن رجل من بني سليم قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدى : (( التسبيح نصف الميزان والحمد لله يملأه والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض والصوم نصف الصبر والطهور نصف الإيمان )) وحسنه .
أنواع الصبر :
ثلاثة أنواع : صبر على طاعة الله وصبر على محارم الله وصبر على أقدار الله المؤلمة .
وتجتمع الثلاثة في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله وصبرا عما حرم الله على الصائم من الشهوات وصبرا على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن وهذا الألم الناشئ من أعمال الطاعات يثاب عليه صاحبه كما قال الله تعالى في المجاهدين (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )) (1) .
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( عمرة في رمضان تعدل بحجة )) (3) أو قال : (( حجة معي )) .
(1) حديث صحيح مروى في الصحيحين .
معنى قوله : الصوم لي :
وأما قوله : (( فإنه لي )) فإن الله خص الصيام بإضافته إلى نفسه دون سائر الأعمال وقد كثر القول في معنى ذلك من الفقهاء والصوفية وغيرهم وذكروا فيه وجوهاً كثيرة ومن أحسن ما ذكر فيه وجهان :
أحدهما : أن الصيام هو مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها
الأصلية التي جُبلت على الميل إليها لله عز وجل ولا يوجد ذلك في عبادة أخرى غير الصيام لأن الإحرام إنما يترك فيه الجماع ودواعيه من الطيب دون سائر الشهوات من الأكل والشرب وكذلك الاعتكاف مع أنه تابع للصيام وأما الصلاة فإنه وإن ترك المصلى فيها جميع الشهوات إلا أن مدتها لا تطول فلا يجد المصلى فقد الطعام والشراب في صلاته بل قد نهى أن يصلي ونفسه تتوق إلى الطعام بحضرته حتى يتناول منه ما يسكن نفسه ولهذا أمر بتقديم العشاء على الصلاة .
الوجه الثاني : أن الصيام سر بين العبد وربه لا يطلع عليه غيره لأنه مركب من نية باطنة لا يطلع عليها إلا الله وترك لتناول الشهوات التي يُستخفى بتناولها في العادة ولذلك قيل : لا تكتبه الحفظة وقيل : إنه ليس فيه رياء كذا قاله الإمام أحمد وغيره وفيه حديث مرفوع مرسل وهذا الوجه اختيار أبي عبيد وغيره وقد يرجع إلى الأول فإن من ترك ما تدعوه نفسه إليه لله عز وجل حيث لا يطلع عليه غير من أمره أو نهاه دل على صحة إيمانه والله تعالى يحب من عباده أن يعاملوه سرّا بينهم وبينه وأهل محبته يحبون أن يعاملوه سرا بينهم وبينه بحيث لا يطلع على معاملتهم إياه سواه حتى كان بعضهم يرد لو تمكن من عبادة لا تشعر بها الملائكة الحفظة وقال بعضهم لما اطلع على بعض سرائره : إنما كانت تطيب الحياة لما كانت المعاملة بيني وبينه سرا ثم دعا لنفسه بالموت فمات .
فوائد التقرب إلى الله بترك الشهوات :
وفي التقرب بترك هذه الشهوات بالصيام فوائد :
منها : كسر النفس فإن الشبع والرى ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة .
ومنها : تخلى القلب للفكر والذكر فإن تناول هذه الشهوات قد تقسى القلب وتعميه وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر وتستدعى الغفلة وخلو البطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ويخليه للذكر وللفكر .
ومنها : أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه بإقداره له على ما منعه كثيرا من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح فإن بامتناعه من ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك يتذكر به من مُنع من ذلك على الإطلاق فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك .
ومنها : أن الصيام يضيق مجارى الدم التي هي مجارى الشيطان من ابن آدم فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فتسكن بالصيام وساوس الشيطان وتنكسر سورة الشهوة والغضب ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم وجاء لقطعه عن شهوة النكاح .
تفسير فرحة الصائم :
وقوله صلى الله عليه وسلم (( للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه )) أما فرحة الصائم عند فطره فإن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم ومشرب ومنكح فإذا منعت من ذلك في وقت من الأوقات ثم أبيح لها في وقت آخر فرحت بإباحة ما منعت منه خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه فإن النفوس تفرح بذلك طبعا فإن كان ذلك محبوبا لله كان محبوبا شرعا والصائم عند فطره كذلك فكما أن الله تعالى حرم على الصائم في نهار الصيام تناول هذه الشهوات فقد أذن له فيها في ليل الصيام بل أحب منه المبادرة إلى تناولها في أول الليل وآخره فأحبُّ عباده إليه أعجلهم فطرا والله وملائكته يصلون على المتسحرين .
الصائمون على طبقتين :
الصائمون على طبقتين : إحداهما : من ترك طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى يرجو عنده عوض ذلك في الجنة فهذا قد تاجر مع الله وعامله والله تعالى لا يضيع اجر من أحسن عملا ولا يخيب معه من عامله بل يربح عليه أعظم الربح . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل : (( إنك لن تدع شيئًا اتقاء الله إلا أتاك الله خيرا منه )) (6) خرجه الإمام أحمد .
(6) أخرجه أحمد ( 5 / 79 ) .
الطبقة الثانية من الصائمين :
من يصوم في الدنيا عما سوى الله فيحفظ الرأس وما حوى ويحفظ البطن وما وعى ويذكر الموت والبلى ويريد الآخرة فيترك زينة الدنيا فهذا عيد فطره يوم لقاء ربه وفرحه برؤيته .
معنى قوله لخلوف فم الصائم أطيب :
وقوله (( ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )) خلوف الفم رائحة ما يتصاعد منه من الابخرة لخلو المعدة من الطعام بالصيام وهي رائحة مستكرهة في مشَام الناس في الدنيا لكنها طيبة عند الله حيث كانت ناشئة عن طاعته وابتغاء مرضاته .
خلوف أفواه الصائمين له أطيب من ريح المسك .
عرى المحرمين لزيارة بيته أجمل من لباس الحلل .
نوح المذنبين على أنفسهم من خشيته أفضل من التسبيح .
انكسار المخبتين لعظمته هو الجبر .
ذل الخائفين من سطوته هو العز .
بذل النفوس للقتل في سبيله هو الحياة .
جوع الصائمين لأجله هو الشبع .
عطشهم في طلب مراضاته هو الرى .
لما سُلْسل الشيطان في شهر رمضان وخمدت نيران الشهوات بالصيام انعزل سلطان الهوى وصارت الدولة لحاكم العقل بالعدل فلم يبقل للعاصي عذر .
يا شموس التقوى والإيمان اطلعي .
يا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي .
يا قلوب الصائمين اخشعي .
يا إقدام المتهجدين اسجدي لربك واركعي ، يا عيون المجتهدين لا تهجعي ، يا ذنوب التائبين لا ترجعي ، يا أرض الهوى ابلعي ماءك ويا سماء النفوس أقلعي ، يا بروق العشاق للعشاق المعي ، يا خواطر العارفين ارتعي ، يا همم المحبين بغير الله لا تقنعي ، يا جنيد اطرب ، يا شبلى احضر ، يا رابعة اسمعي ، قد مدت في هذه الأيام موائد الإنعام للصوام فما منكم إلا من دعى (( يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ )) (1) ويا همم المؤمنين أسرعي فطوبى لمن أجاب فأصاب وويل لمن طرد عن الباب وما دعى .
ليت شعري إن جئتهم يقبلوني
أن تراهم عن بابهم يصرفوني ؟
أم تراني إذا وقفت لديهم
يأذنوا بالدخول أم يطردونـــي ؟
المجلس الثاني :
في فضل الجود في رمضان وتلاوة القرآن
كثرة جود النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان :
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن وكان جبريل يلقاه كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة )) (1) وخرجه الإمام أحمد بزيادة في آخره وهي : لا يسأل عن شئ إلا أعطاه .
الجود هو سعة العطاء وكثرته والله تعالى يوصف بالجود وفي الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الله جواد يحب الجود كريم يحب الكرم )) (2) .
(1) حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه ( 2 . 19 ) ومسلم في صحيحه ( 8 . 23 ) وكلاهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) حديث إسناده ضعيف أخرجه الترمذي ( 2799 ) من طريق خالد بن إلياس عن صالح بن أبي حسان عن سعيد بن المسيب يقول : (( إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود . . . )) فذكرت ذلك لمهاجر بن مسمار فقال : حدثنيه عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله قال أبو عيسى الترمذي : هذا حديث غريب وخالد بن إلياس يُضَعَّف .
قلت : خالد بن إلياس متروك الحديث .
وفي الأثر المشهور عن فضيل بن عياض : إن الله تعالى يقول كل ليلة : أنا الجواد ومني الجود أنا الكريم ومني الكرم فالله سبحانه وتعالى أجود الأجودين وجوده يتضاعف في أوقات خاصة كشهر رمضان وفيه أنزل قوله : (( وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ )) وفي الحديث الذي خرجه الترمذي وغيره أنه ينادي فيه مناد : (( يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر )) .
وفي الصحيحين عن أنس : قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس )) (1) .
(1) حديث صحيح عزاه الألباني في صحيح الجامع الصغير ( 4510 ) للشيخين في صحيحيهما وللترمذي وابن ماجه في سننيهما من حديث أنس رضي الله عنه وانظر صحيح البخاري ( 2820 ) .
وخرج البخاري من حديث سهل بن سعد : أن شملة أهديت للنبي صلى الله عليه وسلم فلبسها وهو محتاج إليها فسأله إياها رجل فأعطاه فلامه الناس وقالوا : كان محتاجا إليها وقد علمت أنه لا يرد سائلا فقال : إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه .
كان خلقه القرآن :
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب له خلقاً بحيث يرضى لرضاه ويسخط لسخطه ويسارع إلى ما حث عليه ويمتنع مما زجر عنه فلهذا كان يتضاعف جوده وأفضاله في هذا الشهر لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم الذي يحث على المكارم والجود ولا شك أن المخالطة تؤثر وتورث أخلاقا من المخالطة كان بعض الشعراء قد امتدح ملكا جوادا فأعطاه جائزة سنية فخرج بها من عنده وفرقها كلها على الناس ، فأنشد :
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى
ولم أدر أن الجود من كفه يعدى
فوائد جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان :
وفي تضاعف جوده صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان بخصوصه فوائد كثيرة :
منها : شرف الزمان ومضاعفة أجر العمل فيه وفي الترمذي عن أنس مرفوعا : (( أفضل الصدقة صدقة في رمضان )) .
ومنها : إعانة الصائمين والقائمين والذاكرين على طاعاتهم فيستوجب المعين لهم مثل أجرهم كما أن من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله فقد غزا .
ومنها : أن شهر رمضان شهر يجود الله فيه على عباده بالرحمة والمغفرة والعتق من النار ولا سيما في ليلة القدر والله تعالى يرحم من عباده الرحماء كما قال صلى الله عليه وسلم (( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )) .
ومنها : أن الجمع بين الصيام والصدقة أبلغ في تكفير الخطايا واتقاء جهنم والمباعدة عنها وخصوصا إن ضمَّ إلى ذلك قيام الليل فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الصيام جُنة )) وفي رواية (( جُنَّة أحدكم من النار كجنته من القتال )) .
ومنها : أن الصيام لا بد أن يقع فيه خلل أو نقص وتكفير الصيام للذنوب مشروط بالتحفظ مما ينبغي التحفظ منه .
استحباب مدارسة القرآن في رمضان :
ودل الحديث أيضا على استحباب دراسة القرآن في رمضان والاجتماع على ذلك وعرض القرآن على من هو أحفظ له .
وفيه دليل على استحباب الإكثار من تلاوة القرآن في شهر رمضان وفي حديث فاطمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبرها : أن جبريل عليه السلام كان يعارضه القرآن كل عام مرة وأنه عارضه في عام وفاته مرتين .
نزول الكتب السماوية في رمضان :
وفي المسند عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان وأنزلت التوراة لست مضيت من رمضان وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان )) .
جهادان في رمضان :
واعلم أن المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جهادان لنفسه . جهاد بالنهار على الصيام وجهاد بالليل على القيام فمن جمع بين هذين الجهادين ووفى بحقوقهما وصبر عليهما وُفى أجره بغير حساب قال كعب : ينادى يوم القيامة مناد إن كل حارث يُعطى بحرثه ويُزاد غير أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب ويشفعان له أيضا عند الله عز وجل كما في المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الصيام والقيام يشفعان للعبد يوم القيامة ، يقول الصيام : أى رب منعته الطعام والشراب بالنهار ، يقول القرآن : منعته النوم بالليل فشفعني فيه فيشفعان )) فالصيام يشفع لمن منعه الطعام والشهوات المحرمة كلها سواء كان تحريمها يختص بالصيام كشهوة الطعام والشراب والنكاح ومقدماتها أو لا يختص كشهوة فضول الكلام المحرم والنظر المحرم والسماع المحرم والكسب المحرم فإذا منعه الصيام من هذه المحرمات كلها فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة ويقول : يا رب منعته شهواته فشفعني فيه فهذا لمن حفظ صيامه ومنعه من شهواته فأما من ضيَّع صيامه ولم يمنعه مما حرمه الله عليه فإنه جدير أن يُضرَبَ به وجهُ صاحبه ويقول له : ضيعك الله كما ضيعتني ، كما ورد مثل ذلك في الصلاة ، قال بعض السلف : إذا احتُضِر المؤمن يقال للملك شم رأسه قال : أجد في رأسه القرآن فيقال : شم قلبه فيقول : أجد في قلبه الصيام فيقال شم قدميه فيقول : أجد في قدميه القيام فيقال : حفظ نفسه حفظه الله تعالى .
خصومة القرآن لهاجره :
فأما من كان معه القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار فإنه ينتصب للقرآن خصما له بحقوقه التي ضيعها .
وخرج الإمام أحمد من حديث سمُرة : (( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه رجلا مستلقيا على قفاه ورجل قائم بيده فهرا وصخرة فيشدخ به رأسه فيتدهده الحجر فإذا ذهب ليأخذه عاد رأسه كما كان فيصنع به مثل ذلك فسأل عنه فقيل له : هذا رجل آتاه الله القرآن فنام عنه بالليل ولم يعمل به بالنهار فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة )) وقد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ .
المجلس الثالث :
في ذكر العشر الأوسط من شهر رمضان وذكر نصف الشهر الأخير
ليلة القدر ومتى هي ؟
في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأوسط من رمضان فاعتكف عاما حتى إذا كانت ليلة إحدى وعشرين وهي التي يخرج في صبيحتها من اعتكافه قال : (( من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر وقد أريت الليلة ثم أنسيتها وقد رأيتني أسجد في ماء وطين في صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر )) (1) .
فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش (2) فوكف المسجد فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين ، هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان لابتغاء ليلة القدر وهذا السياق يقتضي أن تكرر منه .
وروى أن عمر جمع جماعة من الصحابة فسألهم عن ليلة القدر فقال بعضهم : كنا نراها في العشر الأوسط ثم بلغنا أنها في العشر الأواخر .
(1) انظر الصحيحين في فضل ليلة القدر .
(2) على عريش : هو سقف المسجد .
وخرج ابن أبي عاصم في كتاب الصيام وغيره من حديث خالد بن محدوج عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( التمسوها في أول ليلة أو في تسع أو في أربع عشرة )) . أما الأول فخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن أنيس أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر فقال : (( رأيتها ونسيتها فتحرها في النصف الأواخر )) ثم عاد فسأله فقال : (( التمسها في ليلة ثلاث وعشرين تمضي من الشهر )).
وقيل : إن الصحيح وقفه على ابن مسعود فقد صح عنه أنه قال : (( تحروا ليلة القدر ليلة سبع عشرة صباحية بدر أو إحدى وعشرين وفي رواية عنه قال : ليلة سبع عشرة فإن لم يكن ففي تسع عشرة )) .
شهر الغفران :
وفي شهر رمضان يلطف الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم فيغل فيه الشياطين ومردة والجن حتى لا يقدروا على ما كانوا يقدرون عليه في غيره من تسويل الذنوب ولهذا تقل المعاصي في شهر رمضان في الأمة لذلك ، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين )) (1) ولمسلم : (( فتحت أبواب الرحمة )) وله أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين )) وخرَّج منه البخاري ذكر فتح أبواب الجنة .
وفي رواية للنسائي وتُغل فيه مردة الشياطين وللإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال لم تعطه أمة قبلهم خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ويزين الله كل يوم جنته ثم يقول : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك وتصفد فيه مردة الشياطين فلا يخلصون فيه إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره ويغفر لهم في آخر ليلة قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر قال : لا ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله )) (3) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 1899 ) ومسلم في صحيحه ( الصيام / 2 ) بلفظ (( أبواب الرحمة )) .
(3) أخرجه احمد ( 4 . 79 ) عن أبي هريرة وإسناده ضعيف لضعف هشام ضعفه البخاري وقال أبو حاتم : منكر الحديث وقال أبو زرعة : ضعيف الحديث .
وفي صحيح ابن حبان عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( في ليلة القدر لا يخرج شيطانها حتى يخرج فجرها )) .
وفي المسند من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح وإن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ )) وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر وذلك أنها تطلع لا شعاع لها .
وقال مجاهد في قوله تعالى : (( سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ )) قال : سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطانٌ العمل فيها وعنه قال : ليلة القدر ليلة سالمة لا يحدث فيها داء ولا يرسل فيها شيطان وعنه قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ولا يحدث فيها أذى .
المجلس الرابع :
في ذكر العشر الأواخر من رمضان
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله )) .
هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم : (( أحيا الليل وأيقظ أهله وشد مئزره )) .
وفي رواية لمسلم عنها قالت : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )) كان النبي صلى الله عليه وسلم يخص العشر الأواخر من رمضان بأعمال لا يعملها في بقية الشهر :
فمنها : إحياء الليل فيحتمل أن المراد إحياء الليل كله وقد روى من حديث عائشة من وجه فيه ضعف بلفظ وأحيا الليل كله .
وفي المسند من وجه آخر عنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلط العشرين بصلاة ونوم فإذا كان العشر يعني الأخير شمر وشد المئزر .
ونقل بعض أصحابهم عن ابن عباس أن إحياءها يحصل بأن يصلى العشاء في جماعة ويعزم على أن يصلى الصبح في جماعة .
وكذا قال الشافعي في القديم : من شهد العشاء والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يشد المئزر واختلفوا في تفسيره فمنهم من قال : هو كناية عن شدة جدِّه واجتهاده في العبادة .
ومنها : تأخيره للفطور إلى السحر روى عنه من حديث عائشة وأنس أنه صلى الله عليه وسلم كان في ليالي العشر يجعل عشاءه سحوراً ولفظ حديث عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان رمضان قام ونام فإذا دخل العشر شد المئزر واجتنب النساء واغتسل بين الأذانين وجعل العشاء سحوراً أخرجه ابن أبي عاصم وإسناده مقارب وحديث أنس خرجه الطبراني ولفظه : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان طوى فراشه واعتزل النساء وجعل عشاءه سحوراً )) وفي إسناده حفص بن واقد ، قال ابن عدى : هذا الحديث من أنكر ما رأيت له .
مشروعية التزين في المناسبات :
وقال ابن جرير : كانوا يستحبون أن يغتسلوا كل ليلة من ليالي العشر الأواخر وكان النخعي يغتسل في العشر كل ليلة ومنهم من كان يغتسل ويتطيب في الليالي التي تكون أرجى لليلة القدر فأمر زر بن حبيش بالاغتسال ليلة سبع وعشرين من رمضان ، وروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلى مثلها من قابل .
الاعتكاف :
ومنها : الاعتكاف ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى .
وهذا الاعتكاف هو الخلوة الشرعية وإنما يكون في المساجد لئلا يترك به الجمع والجماعات فإن الخلوة القاطعة عن الجمع والجماعة منهىُّ عنها ، سئل ابن عباس عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل ولا يشهد الجمعة والجماعات قال : (( هو في النار )) .
معنى الاعتكاف وحقيقته :
فمعنى الاعتكاف وحقيقته قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق وكلما قويت المعرفة بالله والمحبة له والأنس به أورثت صاحبها الانقطاع إلى الله تعالى بالكلية على كل حال مكان بعضهم لا يزال منفردا في بيته خاليا بربه فقيل له : أما تستوحش ؟ قال : كيف أستوحش وهو يقول : (( أنا جليس من ذكرني )) .
الحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة :
واختلف في ليلة القدر والحكمة في نزول الملائكة في هذه الليلة أن الملوك والسادات لا يحبون أن يدخل دارهم أحد حتى يزينوا دارهم بالفرش والبسط ويزينوا عبيدهم بالثياب والأسلحة فإذا كان ليلة القدر أمر الرب تبارك وتعالى الملائكة بالنزول إلى الأرض لأن العباد زينوا أنفسهم بالطاعات بالصوم والصلاة في ليالي رمضان ومساجدهم بالقناديل والمصابيح فيقول الرب تعالى أنتم طعنتم في بني آدم وقلتم (( أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا )) الآية ، فقلت لكم (( إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ )) اذهبوا إليهم في هذه الليلة حتى تروهم قائمين ساجدين راكعين لتعلموا أني اخترتهم على علم على العالمين .
قال مالك : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيرا من ألف شهر .
إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد ، والاعتبار بر القلوب لا بعمل الأبدان ، رب قائم حظه من قيامه السهر ، كم من قائم محروم وكم من نائم مرحوم ! هذا نام وقلبه ذاكر وهذا قام وقلبه فاجر ! ! .
إن المقادير إذا ساعدت
ألحقت النائم بالقائم
لكن العبد مأمور بالسعي في اكتساب الخيرات ، والاجتهاد في الأعمال الصالحات .
المجلس الخامس :
في ذكر السبع الأواخر من رمضان
في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رجلا من أصحاب النبي أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أرى رؤياكم كم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر )) (1) وفي صحيح مسلم عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( التمسوها في العشر الأواخر فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يُغلبن على السبع البواقي )) (2) .
(1) أخرجه البخاري في صحيحه ( 2015 ) ومسلم ( 1165 ) .
(2) أخرجه مسلم في صحيحه ( الصيام / 209 ) عن ابن عمر أيضا .
وكان أيوب السختياني يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيباً وليلة أربع وعشرين ويقول : ليلة ثلاث وعشرين ليلة أهل المدينة وليلة أربع وعشرين ليلتنا يعني أهل البصرة وكذلك كان ثابت وحُميد يفعلان ، وكانت طائفة تجتهد ليلة أربع وعشرين رُوِىَ عن أنس والحسن وروى عنه قال : رقبت الشمس عشرين سنة ليلة أربع وعشرين فكانت تطلع لا شعاع لها .
وقد تقدم من حديث أنس رضي الله عنه : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا كان ليلة أربع وعشرين لم يذق غمضا ، وإسناده ضعيف .
قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة )) وقد خرجه البخاري من حديث عبادة رضي الله عنه .
الاختلاف في ليلة القدر :
وقد اختلف الناس في ليلة القدر اختلافاً كثيراً فحكى عن بعضهم أنها رفعت وحديث أبي ذر يرد ذلك وروى عن محمد ابن الحنفية أنها في كل سبع سنين مرة وفي إسناده ضعيف .
وعن بعضهم أنها في كل السنة ، حكى عن ابن مسعود وطائفة من الكوفيين وروى عن أبي حنيفة . وقال الجمهور هي في رمضان كل سنة ثم منهم من قال : هي في الشهر كله وحكى عن بعض المتقدمين أنها أول ليلة منه وقالت طائفة : هي في النصف الثاني منه وقد حكى عن أبي يوسف ومحمد . وقد تقدم قول من قال : إنها ليلة بدر على اختلافهم هي ليلة سبع وعشرين أو تسع وعشرين .
أرجى ليالي في ذلك :
واختلفوا في أرجى لياليه كما سبق واستدل من رجح ليلة سبع وعشرين بأن أبي بن كعب كان يحلف على ذلك ويقول بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن الشمس تطلع في صبيحتها لا شعاع لها وخرجه مسلم .
وخرجه أيضا بلفظ آخر عن أبى بن كعب رضي الله عنه قال : والله إني لأعلم أي ليلة هي وهي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها وهي ليلة سبع وعشرين وفي مسند الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا قال : يا رسول الله إني شيخ كبير عليل يشق على القيام فمرني بليلة يوفقني الله فيها لليلة القدر قال : (( عليك بالسابعة )) وإسناده على شرط البخارى .
ورواه عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني رأيت في النوم ليلة القدر كأنها ليلة سابعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إني أرى رؤياكم قد تواطأت أنها ليلة سابعة فمن كان متحريها منكم فليتحرها في ليلة سابعة )) قال معمر : فكان أيوب يغتسل في ليلة ثلاث وعشرين ، يشير إلى أنه حملها على سابعة تبقى .
وقد روى من وجوه متعددة فروى عبد الرزاق في كتابه عن معمر عن قتادة وعاصم أنهما سمعا عكرمة يقول : قال ابن عباس رضي الله عنهما : دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فسألهم عن ليلة القدر فأجمعوا أنها في العشر الأواخر ، قال ابن عباس : فقلت لعمر رضي الله عنه : إني لأعلم أو إني لأظن أي ليلة هي قال عمر رضي الله عنه : وأي ليلة هي ؟ قلت سابعة تمضى أو سابعة تبقى من العشر الأواخر فقال عمر رضي الله عنه : ومن أين علمت ذلك ؟ قال : فقلت : إن الله خلق سبع سموات وسبع أرضين وسبعة أيام وإن الدهر يدور على سبع وخلق الله الإنسان من سبع ويأكل من سبع ويسجد على سبع والطواف بالبيت سبع رمى الجمار سبع ، لأشياء ذكرها فقال عمر رضي الله عنه : لقد فطنت لأمر ما فطنا له .
وقد استنبط طائفة من المتأخرين من القرآن أنها ليلة سبع وعشرين من موضعين :
أحدهما : أن الله تعالى كرر ذكر ليلة القدر في سورة القدر في ثلاثة مواضع منها وليلة القدر حروفها تسع حروف والتسع إذا ضربت في ثلاثة فهي سبع وعشرون .
والثاني : أنه قال : (( سَلاَمٌ هِيَ )) فكلمة (( هِيَ )) الكلمة السابعة والعشرون من السورة فإن كلماتها كلها ثلاثون كلمة قال ابن عطية هذا من مُلَحِ التفسير لا من متين العلم وهو كما قال .
ثواب العمل في ليلة القدر :
وأما العمل في ليلة القدر فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
وقيامها إنما هو إحياؤها بالتهجد فيها والصلاة وقد أمر عائشة بالدعاء فيها أيضا قال سفيان الثورى : الدعاء في تلك الليلة أحب إلى من الصلاة قال : وإذا كان يقرأ وهو يدعو ويرغب إلى الله في الدعاء والمسألة لعله يوافق . انتهى .
ومراده أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء وإن قرأ ودعا كان حسناً وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتهجد في ليالي رمضان ويقرأ قراءة مرتلة لا يمر بآية فيها رحمة إلا سأل ولا بآية فيها عذاب إلا تعوذ فيجمع بين الصلاة والقراءة والدعاء والتفكر وهذا أفضل الأعمال وأكملها في ليالي العشر وغيرها والله أعلم .
النبي صلى الله عليه وسلم يعلم عائشة ما تقول في الدعاء :
قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي (( اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني )) .
العفو من أسماء الله تعالى وهو يتجاوز عن سيئات عباده ، الماحي لآثارها عنهم وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه وعفوه أحب إليه من عقوبته.
المجلس السادس :
في وداع رمضان
في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه )) .
والجمهور على أن ذلك إنما يكفر الصغائر ويدل عليه ما خرجه مسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن لما اجتنبت الكبائر )) وفي تأويله قولان :
أحدهما : أن تكفير هذه الأعمال مشروط باجتناب الكبائر فمن لم يجتنب الكبائر لم تكفر له هذه الأعمال كبيرة ولا صغيرة .
والثاني : أن المراد أن هذه الفرائض تكفر الصغائر خاصة بكل حال وسواء اجتنبت الكبائر أو لم تجنب وأنها لا تكفر الكبائر بحال .
أسباب الغفران في رمضان :
شهر رمضان تكثر فيه أسباب الغفران فمن أسباب المغفرة فيه صيامه وقيامه وقيام ليلة القدر فيه كما سبق .
ومنها : تفطير الصوام والتخفيف عن المملوك وهما مذكوران في حديث سلمان المرفوع .
ومنها : الذكر وفي حديث مرفوع (( ذاكر الله في رمضان مغفور له )) .
ومنها : الاستغفار والاستغفار طلب المغفرة ودعاء الصائم مستجاب في صيامه وعند فطره ولهذا كان ابن عمر إذا أفطر يقول : اللهم يا واسع المغفرة اغفر لي وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المرفوع في فضل شهر رمضان : ويغفر فيه إلا لمن أبى قالوا : يا أبا هريرة ومن يأبى ؟ قال : يأبى أن يستغفر الله .
ومنها : استغفار الملائكة للصائمين حتى يفطروا وقد تقدم ذكره فلما كثرت أسباب المغفرة في رمضان كان الذي تفوته المغفرة فيه محروما غاية الحرمان .
حديث المنبر :
في صحيح ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه (( أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال : آمين آمين آمين ، قيل يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين فقال : إن جبريل أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت : آمين ، ومن أدرك أبويه أو أحدهما فلم يبرهما فمات فدخل النار فأبعده الله قل آمين فقلت : آمين ، ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات فدخل النار فأبعده الله قل : آمين فقلت : آمين )) .
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الأمصار يأمرهم بختم رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر فإن صدقة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث والاستغفار يرفع ما انخرق من الصيام باللغو والرفث ولهذا قال بعض العلماء المتقدمين : إن صدقة الفطر للصائم كسجدتى السهو للصلاة .
ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : الغيبة تخرق الصيام والاستغفار يرقعه فمن استطاع منكم أن يجئ بصوم مرقع فليفعل .
وعن ابن المنكدر معنى ذلك : الصيام جنة من النار ما لم يخرقها والكلام السيئ يخرق هذه الجنة والاستغفار يرقع ما تخرق منها فصيامنا هذا يحتاج إلى استغفار نافع وعمل صالح له شافع .
أنفع الاستغفار ما قارنته التوبة وهي حل عقدة الإصرار فمن استغفر بلسانه وقلبه على المعصية معقود وعزمه أن يرجع إلى المعاصي بعد الشهر ويعود فصومه عليه مردود وباب القبول عنه مسدود .
قال كعب : من صام رمضان وهو يحدث نفسه إنه إذا أفطر بعد رمضان أنه لا يعصي الله دخل الجنة بغير مسألة ولا حساب ومن صام رمضان وهو يحدث نفسه إذا أفطر بعد رمضان عصى ربه فصيامه عليه مردود وخرجه سلمة بن شبيب .
شــــــــعر :
أتترك من تحب وأنت جـارُ
وتـــطلبهم وقد بعــــــد المزار ؟ !
وتبكي بعد نأيهم اشتياقـــــا
وتسأل في المنازل أين ساروا ؟ !
تركت سؤالهم وهم حضور
وترجو أن تخبرك الديــــــــــــــار
فنفسك لُم ولا تلُمِ المطايـــا
ومت كمداً فليس لك اعتــــــــــذار
يا شهر رمضان ترفق دموع المحبين تُدفق ، قلوبهم من ألم الفراق تشقق عسى وقفة للوداع تطفئ من نار الشوق ما أحرق عسى ساعة توبة وإقلاع ترفو من الصيام كلَّ ما تخرق عسى منقطع عن ركب المقبولين يلحق عسى أسير الأوزار يطلق عسى من استوجب النار يعتق .
شـــــــــعر :
عسى وعسى من قبل وقت التفرق
إلى كل من ترجو من الخير تلتقى
فيجبر مكسور ويقـــــبل تائـــــــب
ويعتق خطاء ويسعد من شقـــــــى
لطفاً قل ( اللهم أعنا على الصيام والقيام )
المرجع :
لطائف المعارف ، الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله ، ط / دار الحديث ” ص 207 – 296 ” ، فصل : شهر رمضان ، بتصرف.