قطوف من سيرة الإمام الشافعي رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام الشافعي ( 150 هـ – 204 هـ )

” إن المصباح ليس له أن يقول : إن الطريق مظلم ، لكنه يقول :

ها أنذا مضيئ ” – الرافعي –

محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع القرشي بن عبد المطلب بن عبد مناف وينسب إلى شافع فيقال له : الشافعي كما ينسب إلى عبد المطلب فيقال : المطلبي كما ينسب إلى مكة لأنها موطن آبائه وأجداده فيقال له : المكي إلا أن النسبة الأولى قد غلبت عليه .

ولد سنة 150 هـ وهي السنة التي توفي فيها الإمام أبو حنيفة وكانت ولادته بمدينة غزة بفلسطين حيث خرج والده إدريس من مكة إليها في حاجة له فمات بها وأمه حامل به فولدته فيها ثم عادت به بعد سنتين إلى مكة . حفظ القرآن بها في سن السابعة وحفظ موطأ مالك في سن العاشرة .

اختلط بقبائل هذيل الذين كانوا من أفصح العرب فاستفاد منهم وحفظ أشعارهم وضرب به المثل في الفصاحة . تلقى الشافعي فقه مالك على يد مالك . وتفقه بمكة على شيخ الحرم ومفتيه مسلم بن خالد الزنجي ، المتوفى سنة 180 هـ ، وسفيان بن عيينة الهلالي المتوفى سنة 198 هـ وغيرهما من العلماء . ثم رحل إلى اليمن ليتولى منصباً جاءه به مصعب بن عبد الله القرشي قاضي اليمن . ثم رحل إلى العراق سنة 184 هـ واطلع على ما عند علماء العراق وأفادهم بما عليه علماء الحجاز وعرف محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وتلقى منه فقه أبي حنيفة وناظره في مسائل كثيرة ورفعت هذه المناظرات إلى الخليفة هارون الرشيد فسُرَّ منه .

ثم رحل الشافعي بعدها إلى مصر والتقى بعلمائها وأعطاهم وأخذ منهم . ثم عاد مرة أخرى إلى بغداد سنة 195 هـ في خلافة الأمين . وقد أصبح الشافعي في هذه المدة إماماً له مذهبه المستقل ومنهجه الخاص به .

واستمر بالعراق مدة سنتين عاد بعدها إلى الحجاز بعدما ألّف كتابه الحجة الذي رواه عنه أربعة من تلاميذه في العراق وهو : أحمد بن حنبل وأبو ثور والزعفراني والكرابيسي ، ثم عاد مرة ثالثة إلى العراق سنة 198 هـ وأقام بها أشهراً ثم رحل إلى مصر سنة 199 هـ أو سنة 200 هـ على قول بعض المؤرخين ونزل ضيفاً عزيزاً على عبد الله ابن الحكم بمدينة الفسطاط وبعد أن خالط المصريين وعرف ما عندهم من تقاليد وأعراف وعادات تخالف ما عند أهل العراق والحجاز . فكَّر في إعادة النظر فيما أملاه البويطي والمزني والربيع المرادي بالعراق . وظل بمصر إلى أن توفي بها سنة 204 هـ وضريحه بها مشهور . وقد رتب الشافعي أصول مذهبه كالآتي :

كتاب الله أولاً وسنة الرسول – صلى الله عليه وسلم – ثانياً ، ثم الإجماع والقياس والعرف والاستصحاب . وقد دون مذهبه بنفسه . فقد ألّف في مذهبه القديم كتاب الحجة وهذا الكتاب لم يصل إلينا بعينه حيث أعاد النظر فيه وجاء منه ببعض المسائل في مذهبه الجديد في كتاب الأم الذي أملاه على تلاميذه في مصر.  ولم يصل إلينا كتاب الأم إلا برواية الربيع المرادي . فهي المطبوعة الآن في سبعة أجزاء .

يعد الشافعي أول من ألّف في علم أصول الفقه ويتضح ذلك في كتابه المسمى الرسالة وقد كتبها في مكة وأرسلها إلى عبد الرحمن بن مهدي – حاكم العراق حينذاك – مع الحارث بن شريح الخوارزمي البغدادي الذي سمي بالنقال بسبب نقله هذه الرسالة . ولما رحل الشافعي إلى مصر أملاها مرة أخرى على الربيع بن سليمان المرادي . وما أملاه على الربيع يسمى  بالرسالة الجديدة وما أرسله إلى عبد الرحمن بن مهدي يسمى بالرسالة القديمة إذ إن عبد الرحمن بن مهدي أرسل للشافعي أن يضع له كتاباً فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار والإجماع فكتب الشافعي وهو شاب كتاب ” الرسالة ” .

وقد ذهبت الرسالة القديمة وما بين أيدينا هو الرسالة الجديدة التي أملاها على الربيع وقد انتشر مذهب الشافعي في الحجاز والعراق ومصر والشام وفلسطين وعدن وحضرموت وهو المذهب الغالب في إندونيسيا وسريلانكا ولدى مسلمي الفلبين وجاوه والهند الصينية وأستراليا .

ثناء العلماء عليه :

اعتبره العلماء من المجددين كما ورد في الحديث : ” إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها ” أخرجه أبو داود وصححه الحافظ وابن باز .

قال الإمام أحمد : فنظرنا فإذا رأس المئة الأولى عمر بن عبد العزيز وفي رأس المائتين الشافعي .

قال عبد الله ابن الإمام أحمد لأبيه : يا أبت أي رجل كان الشافعي فإني سمعتك كثيراً تدعو له ؟ فقال له : يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا والعافية للناس

قال الربيع : كان الشافعي يُفتي وله خمس عشرة سنة وكان يحيي الليل إلى أن مات .

وفي قدرته على المناظرة وقوة الحجة قال أحدهم : لو أن الشافعي ناظر هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب .

قال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي ناظرته يوماً في مسألة ثم افترقنا ولقيني فأخذ بيدي وقال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة ؟

قال الذهبي : هذا يدل على كمال عقل هذا الإمام وفقه نفسه فما زال النظراء يختلفون .

وكان للشافعي عقل حكيم ولسان لا ينطق إلا بالمفيد ، وهذه بعض من أقواله وحكمه :

– طلب العلم أفضل من صلاة النافلة .

– قال لبعض أصحاب الحديث : أنتم الصيادلة ونحن الأطباء .

– من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن تكلم في الفقه نما قدره ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رق طبعه ومن نظر في الحساب جزل رأيه ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .

– المراء في الدين يُقسي القلب ويورث الضغائن .

– قال الربيع : لا تخوضن في أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم فإن خصمك غداً هو النبي صلى الله عليه وسلم .

– وددتُ أن الناس تعلموا هذا العلم مني على أن لا يُنسب إلي منه شيء .

– ما ناظرتُ أحداً إلا على النصيحة .

– كل ما قلته وهو خلاف الدليل فاضربوا بقولي عرض الحائط .

– العلم علمان : علم الدين وهو الفقه وعلم الدنيا وهو الطب وما سواه فعناء وعبث ، وقال عن علم الطب : ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى .

– تعبَّد من قبل أن ترأس فإنك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد .

– لا يبلغ أحد في هذا الشأن حتى يُضِّر به الفقر ويؤثره على كل شيء .

– رضى الناس غاية لا تدرك وليس إلى السلامة منهم سبيل فعليك بما ينفعك فالزمه .

– العلم ما نفع ليس العلم ما حفظ .

– لو أعلم أن الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته .

– العاقل من عقله عقله عن كل مذموم .

– سياسة الناس أشد من سياسة الدواب .

وفضلاً عن علمه وحكمته كان الشافعي شاعراً عظيماً حتى قيل له يوماً : أخذت الفقه والشعر فما أبقيت لنا ؟

ويدور معظم شعره حول الوعظ والحكمة ومن ذلك قصيدته الشهيرة :

دع الأيام تفعل ما تشاء * وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي * فما لحوادث الدنيا بقاء
وكن رجلا على الأهوال جلدا * وشيمتك السماحة والوفاء
وإن كثرت عيوبك في البرايا * وسرك أن يكون لها غطاء
يغطى بالسماحة كل عيب * وكم عيب يغطيه السخاء
ولا حزن يدوم ولا سرور * ولا بؤس عليك ولا رخاء
ولا تُرِ للأعادي قط ذلا * فإن شماتة الأعدا بلاء
ولا ترج السماحة من بخيل * فما في النار للظمآن ماء
ورزقك ليس ينقصه التأنّي * وليس يزيد في الرزق العناء
إذا ما كنت ذا قلب قنوع * فأنت ومالكُ الدنيا سواء
ومن نزلت بساحته المنايا * فلا أرض تقيه ولا سماء
وأرض الله واسعة ولكن * إذا نزل القضا ضاق الفضاء
دع الأيام تغدر كل حين * ولا يغني عن الموت الدواء

المرجع :

أيتام غيروا مجرى التاريخ  ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / العبيكان ” 65 – 71 ” ، فصل : الإمام الشافعي رحمه الله ، بتصرف.

 

 

 

 

قطوف من سيرة الإمام سفيان الثوري رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام سفيان الثوري ( 97 هـ – 161 هـ )

” أعظم الناس قدراً : من لا يبالي بالدنيا في يد من كانت ”

– محمد بن علي بن الحسين –

هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي . من بني ثور بن عبد مناة بن أُدِّ بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان ، ولد سنة 97 هـ في الكوفة وقيل : في خراسان في عهد الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك . جده كان أحد أكابر التابعين وحضر مع الإمام علي واقعة الجمل وكان والده من علماء الكوفة ولعل ذلك جعله يطلب العلم وهو حدث .

توفي والده وهو دون التاسعة من عمره واعتنت به والدته خير اعتناء فوجهته لدراسة الحديث في المسجد ويروى أن والدته كانت تغزل بمغزلها ذات يوم وباعت ما غزلته بعشرة دراهم ثم دعت إليها ابنها سفيان وقالت : يا سفيان هذه عشرة دراهم اذهب اطلب بها الحديث في المسجد ثم انظر يا بني إن وجدت أثراً لما تعلمته على عقلك وقلبك وعملك فتعال أعطك عشرة دراهم أخرى حتى تطلب بها العلم وإن لم تجد أثراً لذلك فاترك العلم يا بني فإنه يأبى إلا أن يكون لمخلص .

فاجتهد منذ صباه في طلب العلم ونبغ رحمه الله في العلوم وخاصة في الحديث فقد حدَّث عن الأسود بن قيس وأبي إسحاق السبيعي وعمرو بن مرة ومنصور بن المعتمر وأيوب السختياني وإسماعيل بن أبي خالد وغيرهم . روى عنه عبد الله بن المبارك ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن وهب ووكيع بن الجراح وحماد بن أبي سليمان وعبد الرحمن بن مهدي ومالك وشعبة .

وكانت له – رحمه الله – حافظة عجيبة فكان يقول : لم أستودع قلبي شيئا فخانني ، ويقول أيضا : ما استودعت أذني شيئا فنسيته .

من عجائب حفظه :

– دخل مرة على هشام بن عروة فسمع منه فأعاد ما سمع للحاضرين .

– ضاع كتاب الديات فأملاه على صاحبه باباً باباً من حفظه .

– كان أمير المؤمنين في الحديث الشريف كما قال بذلك شعبة بن الحجاج وغيره فقد حفظ 300 ألف حديث ولم يحدث منها إلا بعشرها ( أي 30 ألف حديث ) . ولئن كان سفيان الثوري قد برع في الحديث فقد تميز في علوم عدة واشتهر بالورع والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

يقول عنه الإمام الذهبي : كان رأسا في الحديث ورأسا في الفقه ورأسا في الورع ورأسا في الزهد .

أما أكثر ما اشتهر به سفيان الثوري وساد أقرانه بسببه وفاق علماء الزمان هو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتصديه للظلم . وذكر أن العز بن عبد السلام كان يشبهه في الأمر بالمعروف كما كان النووي يشبهه في الورع . وكان أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر تجلى في عهد الخليفتين العباسيين المنصور والمهدي ، وخاصة مع المهدي حيث رفض منصب القضاء تورعاً بعد أن عرضه عليه المنصور ففر سفيان واختفى في مكة فجعل المنصور مكافأة كبيرة لمن يأتي به ففر إلى اليمن فأخذه واليها معن بن زائدة فلما عرفه قال له أنت حر إن أردت أن تقيم أو أردت أن ترحل فلو كنت تحت قدمي ما رفعتها عنك ليأخذك أحد ، ولقد دخل سفيان على المهدي فقال له المهدي يا سفيان كن معي حتى أسير فيكم بسيرة العمرين فقال له سفيان فكيف بهؤلاء الذين من حولك ؟ ووعظه بشدة ونهاه عن منكرات في حاشيته فقال صاحب المهدي الربيع : أتقول هذا لأمير المؤمنين ؟ دعني يا أمير المؤمنين أضرب عنقه ؛ فقال له سفيان سبحان الله ! أنتم شرّ من بطانة فرعون فإنها قالت له : ( أرجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين ) فقال المهدي للربيع : اسكت لا تقل له هذا فإن هذا وأمثاله – يقصد الثوري – يريدونا أن نقتلهم فنشقى ويسعدون ولكن يا ثوري نكتب لك عهداً بالقضاء فأمر بذلك وأعطاه للثوري الذي خرج من عنده وأخذ العهد بالقضاء فرماه في نهر دجلة وفر هاباً حتى دخل البصرة ورصد المهدي مكافأة كبيرة لمن يدلي بأخبار عن الثوري الذي تحداه ورفض هذا المنصب فدخل الثوري البصرة وأقام فيها حتى توفي .

وكان – رحمه الله – كثير العبادة وذكر أنه سجد بعد المغرب ولم يرفع رأسه حتى أذن للعشاء وقال أحد السلف : رأيت سفيان ساجدا وطفت بالبيت 49 مرة وهو ما يزال على تلك الحال .

كان ربما يجلس طول الليل إلى طلوع الفجر في عبادة تفكر .

كان كثير البكاء ، كثير ذكر الموت ، قال بعض السلف ما رأيت سفيان إلا باكيا وقال بعضهم أيضا : ما رأيت سفيان في مجلس قط إلا وذكر الموت .

كما كان – رحمه الله – شديد الزهد لا يقبل شيئاً من أحد معتمدا على كسب يده وكان يحث طلبة العلم على أن يكسبوا من عملهم ، وكان إذا احتاج إلى المال ينقص جذوع بيته ويبيعه فإذا حصل على المال أعاد بناء السقف ، كل ذلك مخافة أن يسأل أحداً وكان يذهب من العراق إلى اليمن بحثا عن الكسب الحلال وكان يقول : عمل الأبطال الكسب الحلال والإنفاق على العيال وكان يقول : المال ترس المؤمن .

ومع ورعه وزهده ودوام ذكره للموت فقد كان رضي الله عنه كثير المزاح فكان يمزح ويضحك حتى يستلقي ويمد رجليه حتى إن بعض السلف كان ينبهه على أن هذا المزاح لا يليق بالعلماء .

مؤلفاته :

يقال : إنه أول من ألف كتباً عن الموضوعات في الكوفة . وله كتاب الجامع الكبير والجامع الصغير وكلاهما في الحديث . وله رسالة في الفرائض وألَّف أبو الفرج بن الجوزي كتاباً في مناقبه .

من أقوال السلف والعلماء فيه :

قال الإمام مالك : كانت العراق تجيش علينا بالدراهم والثياب ثم صارت تجيش علينا بسفيان .

وكان الإمام أحمد يقول عنه : هو الإمام لا يتقدم عليه أحد .

وقال ابن عيينه : أصحاب الحديث ثلاثة : ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه .

وقال المثنى بن صباح : سفيان علم الأمة وعابدها .

وفاته :

توفي – رحمه الله – في البصرة سنة 161 هـ وكان معه وقت احتضاره تلاميذه عبد الرحمن بن المهدي وسفيان بن عيينه فطلب من عبد الرحمن أن يقرأ عليه سورة يس قال : فما أكملها حتى مات . وذكر أنه أصيب بالبطن ( الإسهال ) فتوضأ تلك الليلة 60 مرة وهو على فراش الموت ثم ذكر أنه لما عاين الموت نزل عن الفراش ووضع خده على الأرض وقال يا عبد الرحمن ما أشد الموت .

ويذكر أن تلاميذه وجدوه يبكي بشدة فقيل له : لِمَ هذا البكاء والخوف مع أنك قادم على من كنت تعبد وترجو ؟ قال سفيان : ” إني لا أخاف من ذنوبي فهي أهون عليّ من هذه وأشار إلى قطعة قماش بالية ولكني أخاف أن أسلب الإيمان ” وظل يبكي حتى أصبح ودخل عليه رجل فحدثه بحديث لم يسمعه من قبل فأخرج لوحاً من تحت سريره وأخذ يكتب الحديث فقيل له : وأنت على هذه الحالة ؟ قال : ” لئن ألقى الله عز وجل وأنا أعلم هذا الحديث خير من أن ألقاه وأنا لا أعلمه ” . وظل يدعو ويقرأ ويبتهل ويبلى ويرتعد حتى مات رحمه الله عن أربع وستين سنة .

وقد رآه بعضهم في المنام يطير في الجنة من نخلة إلى نخلة ومن شجرة على شجرة وهو يقرأ قوله تعالى : (( الحمد لله الذي صدقنا وعده .. )) ، وقال عبد الرحمن بن مهدي : ” كنت مع من غسّل الثوري فوجدت مكتوباً على جسده بخط واضح (( فسيكفيكهم الله )) ، وخرجوا به تحت جنح الظلام حتى لا يتفطن له أحد فقال عبد الرحمن بن مهدي فسرنا بالليل كأننا في النهار من شدة ضياء هذه الليلة .

فرحم الله هذا الإمام العالم الزاهد الذي قدم لنا دروساً جليلة في معاني الإيمان والصبر على الحق والحرص على العلم حتى آخر لحظات الحياة .

المرجع :

أيتام غيروا مجرى التاريخ  ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / العبيكان ” 107 – 111 ” ، فصل : الإمام سفيان الثوري رحمه الله ، بتصرف.

 

 

 

قطوف من سيرة أمير المؤمنين في الحديث ( الإمام البخاري ) رحمه الله

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام البخاري ( 194 هـ – 256 هـ )

” ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام ”

– المتنبي –

هو الإمام الكبير العَلَم ، أمير المؤمنين في الحديث ، أبو عبد الله ، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري . يعد كتابه المعروف ب ” صحيح البخاري ” المرجع الثاني للمسلمين بعد كتاب الله ؛ وذلك لاحتوائه على مئات الآلاف من الأحاديث الصحيحة المروية عن النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – .

واشتهر الإمام البخاري بقوة حفظه ودقته في الرواية وصبره على جمع الحديث . وقد شهد له الأئمة بالحفظ والإتقان والعلم والزهد والعبادة ، قال عنه الإمام أحمد رحمه الله : ما أخرجت خراسان مثله .

وقال ابن خزيمة رحمه الله : لم أر تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحفظ من البخاري .

وقال الترمذي رحمه الله : لم أر في العراق ولا في خراسان في معرفة العلل والتاريخ ومعرفة الأسانيد أعلم من البخاري .

فمن هو الإمام البخاري ؟

هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبه البخاري . ولد في يوم الجمعة الرابع من شوال سنة 194 هـ في مدينة بخارى ( الواقعة حاليا ضمن جمهورية أوزيكستان ) ، وكانت بخارى آنذاك مركزاً من مراكز العلم تمتلئ بحلقات المحدِّثين والفقهاء ، واستقبل حياته في وسط أسرة كريمة ذات دين ومال ؛ فكان أبوه عالماً محدِّثاً ، عُرِف بين الناس بحسن الخلق وسعة العلم وكانت أمه امرأة صالحة لا تقل ورعاً وصلاحاً عن أبيه .

ويروى أن الإمام البخاري قد عمىَ في صغره فرأت أمّه رؤيا جاءها فيها الخليل إبراهيم عليه السلام وقال لها : يا هذه ؛ قد رد الله على ابنك بصره لكثرة بكائك فأصبحت وقد شفى ابنها .

والبخاري ليس من أرومة عربية بل كان تركي الأصل وأول من أسلم من أجداده هو ” المغيرة بن بردزبة ” وكان إسلامه على يد ” اليمان الجعفي ” والي بخارى ؛ فنُسب إلى قبيلته وانتمى إليها بالولاء وأصبح ” الجعفي ” نسباً له ولأسرته من بعده .

نشأ البخاري يتيماً فقد توفي أبوه مبكراً فلم يهنأ بمولوده الصغير لكن زوجته تعهدت وليدها بالرعاية والتعليم ، تدفعه إلى العلم وتحببه فيه وتزين له الطاعات ؛ فشب مستقيم النفس عفَّ اللسان كريم الخلق مقبلا على الطاعة ، وما كاد يتم حفظ القرآن حتى بدأ يتردد على حلقات المحدثين .

وفي هذه السنِّ المبكرة مالت نفسه إلى الحديث ووجد حلاوته في قلبه فأقبل عليه محباً حتى إنه ليقول عن هذه الحقبة : ” ألهمت حفظ الحديث وأنا في المكتب ( الكُتّاب ) ، ولي عشر سنوات أو أقل ” . كانت حافظته قوية وذاكرته لاقطة لا تُضيّع شيئاً مما يُسمع أو يُقرأ وما كاد يبلغ السادسة عشرة من عمره حتى حفظ كتب ابن المبارك ووكيع وغيرها من كتب الأئمة المحدثين .

وكان للبخاري – رحمه الله – أكثر من ألف شيخ التقى بهم في البلدان والأمصار التي رحل إليها ، ومن هؤلاء :

الإمام أحمد بن حنبل وحماد بن شاكر ومكي بن إبراهيم وأبو عاصم النبيل.

وممن روى عن البخاري :

مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح والترمذي والنسائي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم كثير .

وللبخاري مؤلفات عدة أشهرها : الجامع الصحيح والتاريخ الكبير والضعفاء في رجال الحديث والأدب المفرد وخلق أفعال العباد .

صحيح البخاري :

هو أشهر كتب البخاري بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة . بذل فيه الإمام جهداً خارقاً وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عاماً هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث . وقد احتوى نحو ستمائة ألف حديث اختار منها ما وثق برواته . وهو أول من وضع في الإسلام كتاباً على هذا النحو . وهو أوثق كتب الحديث الستَّة . وسبب تأليفه ذكره البخاري في قوله : كنت عند إسحاق بن رَاهَوَيه فقال بعض أصحابنا : لو جمعتم كتاباً مختصراً لسنن النبي – صلى الله عليه وسلم – فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جمع هذا الكتاب .

وكان البخاري لا يضع حديثاً في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين. وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى وتعهده بالمراجعة والتنقيح ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن .

أقام في بخارى فتعصب عليه جماعة ورموه بالتُّهم فأخرجه أمير بخارى إلى خَرتَنك . قرية من قرى سمرقند . فتوفي فيها ليلة عيد الفطر عام 256 هـ . وقد وضع ضريح على قبره لا يزال موجوداً حتى اليوم .

المرجع :

أيتام غيروا مجرى التاريخ  ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / العبيكان ” 35 – 38 ” ، فصل : الإمام البخاري رحمه الله ، بتصرف.

 

 

الأديب والكاتب عباس محمود العقاد رحمه الله

” وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام “- المتنبي –

الأديب والكاتب الكبير : عباس محمود العقاد “1889 – 1964″ :

العبقري صاحب ” العبقريات ”

ولد عباس محمود العقاد في مدينة أسوان بصعيد مصر في 28 يونيو عام 1889 ونشأ في أسرة كريمة وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية كان يتردد مع والده على مجالس علماء الأزهر فأحب القراءة وتعلم نظم الشعر وأقبل على تثقيف نفسه ثقافة واسعة .

تخرج العقاد من المدرسة الابتدائية سنة 1903 إلاّ أنه لم يكمل تعليمه بعدها إذ عمل بمصنع للحرير في مدينة دمياط لكنه في الوقت نفسه كان مولعا بالقراءة في مختلف المجالات وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب .

عمل العقاد بعد ذلك موظفاً حكومياً بمدينة قنا والزقازيق ثم انتقل إلى القاهرة ليستقر فيها نهائياً . فاشترك مع ” محمد فريد وجدي ” في إصدار صحيفة الدستور عام 1907 وكان إصدار هذه الصحيفة فرصة لكي يتعرف العقاد بسعد زغلول ويؤمن بمبادئه وتوقفت الصحيفة بعد فترة . ثم انتقل للعمل في جريدة المؤيد عام 1912م .

كان العقاد يمر بضائقة مالية في تلك الفترة مما اضطره إلى إعطاء بعض الدروس ليحصل على قوت يومه فعمل مدرساً عام 1917م . وانتقل للعمل في الأهرام عام 1919 ودافع كثيراً عن سياسة سعد زغلول حول أسلوبه للمفاوضات مع الإنجليز . كان العقاد منتمياً لحزب الوفد حتى عام 1935 عندما انسحب من العمل السياسي إثر اصطدامه بزعيم الحزب آنذاك مصطفى النحاس وبدأ يتجه نحو التأليف والكتابة إلى الصحف أو تحرير بعضها من روز اليوسف والهلال وأخبار اليوم ومجلة الأزهر .

ولم يتوقف إنتاجه الأدبي أبدا رغم ما مر به من ظروف قاسية : إذ كان يكتب المقالات ويرسلها إلى مجلة فصول كما كان يترجم لها بعض الموضوعات .

أما عن أعماله الأدبية فهي كثيرة للغاية ويصعب حصرها إلا أنه بدأ إنتاجه الشعري قبل الحرب العالمية الأولى وظهرت الطبعة الأولى من ديوانه سنة 1916م والطبعة الثانية سنة 1928م في أربعة أجزاء وتوالت بعد ذلك مجموعاته الشعرية بعناوين مختلفة : ( وحي الأربعين ) و ( هدية الكروان ) و ( عابر سبيل ) ..

وقد أسس العقاد بالتعاون مع إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان وكانت هذه المدرسة من أنصار التجديد في الشعر والخروج به عن شكله التقليدي العتيق .

وقد عني العقاد بابن الرومي وكتب عنه كتاباً كبيراً وقد غلب فن المقالة على إنتاج العقاد إلا أن من أشهر أعمال العقاد سلسلة العبقريات التي تناولت بالتفاصيل سير أعلام الإسلام : عبقرية محمد ( صلى الله وسلم على نبينا محمد ) وعبقرية عمر وعبقرية خالد وغيرها .. ولم يكتب إلا رواية واحدة هي ” سارة ” ، ومن أهم مؤلفاته أيضاً : الفلسفة القرآنية ، الله ، إبليس ، والإنسان في القرآن الكريم ومراجعات في الأدب والفنون .

ظل العقاد عظيم الإنتاج حتى تجاوزت كتبه مئة كتاب وآلاف المقالات في الصحف والمجلات متبوئاً مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة وقد عاش من قلمه وكتبه مترفعاً عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها بل صوناً لحريته واعتزازه بها وخوفاً من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة.

في عنفوان نشاط الوفد المصري كان العقاد يكتب الافتتاحيات السياسية في جرائده مثل ( البلاغ ) و ( الجهاد ) وكتب سيرة للزعيم سعد باشا زغلول سنة 1936م . وصدرت عن العقاد عدة بحوث أهمها للآن كتاب بقلم تلاميذه .

وقد منحه الرئيس المصري جمال عبد الناصر جائزة الدولة التقديرية في الآداب غير أنه رفض تسلمها .

توفي العقاد في 12 مارس عام 1964م عن خمسة وسبعين عاماً فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته ، انتهى.

المرجع :

عظماء بلا مدارس ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / مكتبة العبيكان ” 113 – 115 ” ، فصل : الأديب عباس محمود العقاد ، بتصرف.

 

فضلا المصباح الذي تستخدمه كم واط ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

” النجاح المولود الطبيعي للخسارة ”

جيمس واط ( 1736 – 1819 ) :

” ابن النجار البسيط الذي أصبح أشهر علماء بلده ”

واط هو مهندس أسكتلندي كان تصميمه المطور للمحرك أول تطبيق عملي للقدرة البخارية . وكانت المحركات البخارية البسيطة تستخدم قبل زمن واط غير أنها كانت تحرق كميات كبيرة من الفحم وتعطي قدرة قليلة . كما كانت حركتها التبادلية ( أمام وخلف ) تحد من استخدامها لتشغيل المضخات . غير أن اختراع واط للمكثِّف المنفصل الذي يقوم بتحويل البخار مرة أخرى إلى ماء بالتبريد قد زاد من كفاءة المحركات البخارية . وكانت التحسينات الأخيرة التي أدخلها عليها قد أتاحت استخداما واسعا لها . وأسهمت تلك التحسينات بشكل رائع في تطور الصناعة الحديثة .

وتقديرا لإسهاماته تلك – وغيرها – اختاره د . مايكل هارت الشخصية الخامسة والعشرين بين الشخصيات المئة التي أثّرت تأثيرا عظيما في البشرية وذلك في كتابه الشهير ” المئة الأوائل ” .

ولد واط الذي كان ابنا لصاحب محل ونجار في جرينوك بأسكتلندا عام 1736م .

دخل واط إلى المدرسة إلا أنه عانى من صعوبات فيها حالت دون استمراره فيها فترك الدراسة النظامية .

وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره رحل إلى جلاسجو ثم إلى لندن ليتعلم صناعة أدوات خاصة بعلم الرياضيات . وقد برع واط في مهنته هذه بشكل أثار إعجاب الفيزيائي جوزيف بلاك ( مكتشف الحرارة الكامنة ) الذي جعله صانع أدوات في جامعة جلاسجو عام 1757م .

كان لعلاقة الصداقة بين واط وجوزيف بلاك أثر بارز في توجيه واط للاهتمام بالطاقة والاستفادة من البخار كقوة محركة وبعد أن أجرى بعض التجارب في هذا المجال وقع في يديه محرك بخاري من طراز نيوكومن NEWCOMEN في عام 1763م وبعد فترة اخترع واط مكثفا منفصلا وأدخل عددا من التحسينات على المحرك البخاري كان من بينها المضخة الهوائية وغلاف الأسطوانة البخارية ومؤشر البخار ، الأمر الذي جعل من المحرك البخاري ماكينة تجارية صالحة للتداول والاستخدام وسجل براءة اختراعه عام 1769م .

وفي محركات نيوكومن يملأ البخار حيز الأسطوانة الموجود تحت المكبس . عندئذ يتكثف البخار تاركا فراغا يندفع فيه المكبس بالضغط الجوي . ويعني ذلك تسخين وتبريد المكبس بالتناوب وهو ما يسبب ضياع قدر كبير من الطاقة . وأدرك واط أن بخار الماء المغلي ما هو إلا بخار مرن ولذلك يملأ أي وعاء يدخل فيه . وإذا ما انفتحت الأسطوانة المملوءة ببخار الماء على وعاء منفصل مبرد فإن البخار سوف يتحرك في الوعاء ويتكثف محدثا فراغا في الأسطوانة دون الحاجة إلى تبريده .

أمضى واط عدة سنوات وهو يحاول تطوير محرك تشغيل للتصميم الجديد . وفي عام 1774م حصل على مؤازرة ماثيو بولتون وهو صاحب مصنع نشط في برمنجهام . وقام الاثنان بتأسيس شركة هندسية هي شركة ” سوهو للأعمال الهندسية ” والتي كانت تؤجر تصميم المحرك الجديد والإشراف على بنائه وتشغيله وحققت المؤسسة نجاحا . وقد أدخل الشريكان مصطلح القدرة الحصانية في مجال القدرة والطاقة الميكانيكية حيث إن قوة حصان واحد تعادل 746 , 0 كيلوواط وفي عام 1782م سجل واط براءة اختراع المحرك البخاري المزدوج الذي يستخدم ضغط البخار لدفع المكبس في الاتجاهين . كما قام أيضا بتطوير ترابط الحركة الموازية لتحويل الحركة التبادلية للمكبس إلى جهاز متأرجح ( هزاز ) يسمى دعامة التشغيل . وتقوم دعامة التشغيل بدورها بنقل الحركة إلى ذراع تدوير وحذافة لإحداث حركة دوارة .

اخترع واط أيضا صماما خانقا لتنظيم سرعة المحرك وأجهزة كثيرة أخرى . وأجرى أبحاثا علمية في الكيمياء وعلم الفلزات كما كان من أوائل الذين رأوا أن الماء مركب وليس عنصرا . وتقاعد عن العمل أوائل القرن التاسع عشر في الوقت الذي أصبح فيه شخصا ثريا مبجلا . وقد سميت وحدة الطاقة واط باسمه تكريما له .

توفي واط عام 1819م . انتهى

المرجع :

عظماء بلا مدارس ، عبد الله صالح الجمعة حفظه الله ، ط / العبيكان ” ص 203 – 205 ” ، فصل : جيمس واط ، بتصرف.